سوق عكاظ يهدم جدار الفصل الوهمي بين الفصيح والمحكي
لم تكن النبرة العالية للشعر الفصيح هي كل شيء في سوق عكاظ كما قد يتبادر لذهن الوهلة الأولى فقد حضر الشعر المحكي أيضا على نحو أنيق ودون ضوضاء كما يحدث غالبا، ضمت الأمسية ما قبل الأخيرة في الفعاليات الثقافية كلا من الشاعر البحريني عبد الرحمن رفيع والشاعر ردة السفياني وكانت من أكثر الأمسيات نجاحا بشهادة الجميع.
المهم هنا أن لا نتوقف عند الحدث باعتباره نمطاً احتفائيا وقتيا بل أن نفكر فيما يمكن الخروج به من قيم أدبية في هكذا مناسبة وبهكذا حجم، فالمسألة لم تكن بهدف جلب الجمهور المقولب سلفا على حب القصيدة العامية كما جرت العادة في المهرجانات السياحية والأعياد، ولو أن هذا الهدف فعلا وراء دعوة شعراء المحكي لوجدناهم بشكل يومي في الأمسيات لكن هذا لم يحدث في سوق عكاظ، فقد اقتصر الأمر على حضور رمزي في أمسية من أصل سبع أمسيات خصصت للشعر الفصيح والنقد ، والمؤكد أن هذا الحضور الرمزي للمحكي كان أفضل ما يمكن حدوثه في هذا الوقت، وبهذه الطريقة تحديدا.
أمسية واحدة فقط ، منحت الشرعية الثقافية التي سلبها كثير من الأكاديميين للشعر المحكي، وضعته وجها لوجه أمام كبار النقاد والأدباء العرب من ضيوف الفعاليات، قدمت نموذجه الراقي المجدد والمتجدد ، شعراءه الخلوقين الخلاّقين، والأهم أنها أتاحت فتحت المجال لإدراك حقيقة أنه ضمن من يكتب القصيدة المحكية من هو أكثر وعيا وثقافة وإدراكا من الصور النمطية المهايطية التي تعودنا عليها وكتبنا عنها كثيرا.
في الفندق المخصص لإقامة الضيوف، حيث الجلسات الودية في فترة ما بعد انتهاء الفعاليات الرسمية، الحميدي الثقفي الاسم الكبير في امتداده الزمني ومده التجديدي وعواض العصيمي الشاعر الذي تحول أخيرا للرواية وردة السفياني شاعر الطفل المشاغب وغيرهم من الأسماء الجميلة ملأت القاعة بأحاديث ونصوص وذكريات جميلة. جلسوا جميعا بجانب شعراء الفصيح ونقاده، بادلوهم الآراء وناقشوهم في كل شيء وبدا أن المسائل ابسط بكثير مما يتخيل أدعياء الصراع الممجوج بين فصيح ومحكي.
الدكتور عبد الله الحيدري أشاد بأنه استمع نصوصا متجاوزة جماليا وتساءل كثيرا عن حركة التجديد في الشعر المحكي وعن نماذجه الحالية، وبدا مهتما وهو يسأل الشاعر ردة السفياني "هل هناك ناقد أكاديمي تناول هذا التجديد أو تبناه؟؟" بينما كان الجميع يؤكد أن الشعر يبقى شعرا فالأمر لم يعد سطحيا لدرجة أن نرفض مضمونه لمجرد شكله أو لهجته.
في السهرة الأدبية التي تمتد عادة لساعات الصباح الأولى، كانت الكلمة لدى الدكتور عالي بن سرحان القرشي وهو رئيس اللجنة الثقافية في سوق عكاظ والناقد المعروف، ففاجأ الجميع حينما ألقى نصا محكيا من تأليفه وهو مالم يكن معروفا لدى الكثير من المثقفين، شاعر الثمانينيات الشهير عبد الله الصيخان بدوره أكد غير مرة حبه للمحكي وكتابته له بل إن مطالع القصائد كانت تطرأ عليه من وقت لآخر فبدأت أدرك أنه كلما شرد قليلا بفكره فهو يصيغ بيتا محكيا ، ينظر بعده بتركيز ويقول لي "ياهيثم السيد ترى القلب محتاس" فعلا كان توقعي صحيحا ..سأتركه يكمل البيت لآخره!!
لم يعد أحد يتحرج من كونه يحب الشعر المحكي ولم يعد هذا الحب ناقضا من نواقض الثقافة كما كان الحال ذات نخبوية مضت، الشاعر الجميل خالد قماش الذي كان شعلة طيلة أيام سوق عكاظ وألقى عددا من نصوصه الشهيرة في لياليه، كان يحدثنا عن ساحة الشعر المحكي ونحن في السيارة المتجهة لمقر الفعاليات، يؤكد أن الساحة أصبحت عرضة لكل من هب و(سب)، يتحدث فيما بعد بإعجاب عن مرحلة قطوف في مسيرة الشاعر الكبير فهد عافت حينما كان يترجم نصوصا أجنبية فيحولها لنصوص محكية، قبل أن يقرا بعضا منها بإعجاب لايقل عن ذلك الإعجاب الذي يتلقاها به المستمعون، قماش المثقف الذي سألتني إحدى الأكاديميات مطولا إن كان فعلا "يكتب عامي" كان يشيد كثيرا بصفحة بالمحكي، يتحدث عنها للأصدقاء ويصفها بالأمل الوحيد للشعر في الصحافة الورقية، كان يعيد مرارا أن القصيدة الجميلة تبقى جميلة حتى لو كتبت باللغة العبرية!
سوق عكاظ كان للشعر فقط، وكما أكد أمينه العام الدكتور جريدي المنصوري فهو لم ولن يتعصب لصوت على حساب صوت، كان فرصة مواتية للرقي بالذوائق وتعديل الفهم الخاطئ، جمع أطياف الإبداع ضمن بوتقة الفن الواحد الذي لا ينتمي إلا لنفسه وللجمال فقط.