"البرواز" جميل.. لكن الخريطة مضللة!.

"البرواز" جميل.. لكن الخريطة مضللة!.

[email protected]

لا يمكن إعفاء إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، وهي تحزم حقائبها خارجة من البيت الأبيض، من المسؤولية عن الهم الاقتصادي العالمي. كما لا يمكن إعفاء المسؤولين الاقتصاديين - الذين يملكون صنع القرار - سواء كانوا في مناصبهم أم خارجها، وفي مقدمتهم آلان جرينسبان رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق، من المسؤولية عن الكارثة التي تتعاظم مع كل طلعة شمس حول العالم. فالقضية ليست وليدة "اثنين أو ثلاثاء أو أربعاء" سوداء، ولا هي ثمرة لقرار واحد خاطئ، بل هي "ابنة" سلسلة من القرارات الخاطئة - أو لنقل غير الصحيحة - اتخذت على مساحة زمنية طويلة تقاس بالسنوات، لا بالأيام. وعلى هذا الأساس فإن أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية - على سبيل المثال - جاءت نتيجة لأداء مرتبط بالخريطة الاقتصادية، التي وضعتها الإدارة الأمريكية في أحلى "البراويز"، وقدمتها في أهم "المعارض" المالية قاطبة. وكذلك الأمر بالنسبة لانهيار بنك ليمان برازر الأمريكي - وهو رابع أكبر المؤسسات المالية الأمريكية - الذي تداعى ليس بسبب قضية فساد، أو قيام أحد سماسرته "بالمقامرة" في البورصات العالمية، أو هروب أحد مديريه بموجودات مالية ضخمة، بل لأن القروض السكنية علقته من "رقبته"، وأخذت تلف الحبل عليها دون رحمة.
ولكن أين مسؤولية البيت الأبيض هنا؟ وأين مسؤولية رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق؟
كنت قبل عام كتبت مقالا افتتاحيا في مجلة "الاقتصاد اليوم" الصادرة في أبو ظبي، والتي أرأس تحريرها، قلت فيه: "يبدو أن الرئيس الأمريكي جورج بوش لن يترك البيت الأبيض قبل أن (يطمئن) على أن الاقتصاد العالمي دخل مرحلة الكساد". ولم أكن أقصد أن سياسة بوش هي المسبب الوحيد لما يحدث من اضطراب على الساحة الاقتصادية العالمية، ولكني حملته المسؤولية الأكبر، لأنه يقود الاقتصاد الأكبر في العالم، ولأن الاقتصاد الأمريكي لا يزال يؤثر في أداء بقية الاقتصادات، على الرغم من تراجع تأثيره في السنوات الماضية، لصالح عدد من الاقتصادات الناشئة. فحسب المعايير الواقعية والأخلاقية، يصعب تحميل الصغير مسؤولية أزمات لا يمكنه اختلاقها أو التسبب باندلاعها. فأزماته تكون في طبيعة حجمه. وعلى هذا الأساس جاء انتقادي للسياسة الاقتصادية الأمريكية، التي تزعمها - إلى جانب بوش - آلان جرينسبان. فالأول وافق على سلسلة من الخطوات التي قام بها الثاني، على الرغم من التحذيرات المحايدة وغير المحايدة، بما في ذلك إقدامه على خفض شبه مستمر لأسعار الفائدة، ما أطلق عمليات اقتراض سكني هائلة، لم تحدث منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فهذا النوع من السياسات الاقتصادية، تحقق ضمانات انتخابية على الصعيد السياسي، لكنها تحمل في عمقها أزمة مالية عامة، لا تلبس أن تتحول إلى كارثة اجتماعية حقيقية، لاسيما عندما يرتبط مصير منزل الأسرة بحركة سوق متهاوية، بينما لا تزال الأقساط الشهرية متوجبة لسنوات طويلة. لقد أحدثت هذه السياسات الفقاعة العقارية - لا النهضة أو النمو - التي أصيبت بها في السابق بعض دول العالم التي تعتمد نظام اقتصاد السوق، وفي مقدمتها: بريطانيا.
فعندما تتوافر الأموال عند البنوك، تقل الأسئلة التي يوجهها - عادة - مديرو هذه البنوك للباحثين عن القروض. فالضمانات التي تستوجب أحيانا معرفة اسم جد الجد! لم تعد مطلوبة في زمن وفرة السيولة. وتلغى أيضا أسئلة مثل: لو مت قبل إتمام الأقساط؟. أو لو أصبت بحادث ما؟. أو لو تطلقت من زوجتك، أو العكس؟. أو كم سيجارة تدخن في اليوم؟. وهل تتعاطى الكحول؟. وكم مرة تصاب بالإنفلونزا في العام؟. كل هذا لا يهم وسط زخم وفرة الأموال. المهم أن تتم الصفقة. في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، شهدت بريطانيا أسوأ أزمة عقارية في تاريخها، عندما كانت آلاف الأسر "ترمى" في الشارع كل أسبوع، من قبل البنوك والمؤسسات المالية صاحبة الرهونات، بعد عجز المقترضين عن تسديد أقساطهم. والواقع أن سياسة رئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر، هي التي كانت السبب الرئيسي - بل والوحيد - لهذه الأزمة المالية والكارثة الاجتماعية. فتاتشر لم تكن تؤمن بالمجتمع، بل كانت تقدس السوق ومعاييرها، بصرف النظر عن فتكها الاجتماعي. والواقع أن هذه السياسة لم تطلق أزمة سكنية فقط، بل خلقت شريحة من الانتهازيين، والمحتالين، استطاعت في زمن وفرة السيولة، وسهولة الحصول على القروض، أن تؤسس أعمالا، لم تلبث أن تداعت، أخفقت، أو انهارت، أو فر أصحابها إلى خارج البلاد، مما تسبب بأزمة حقيقية للبنوك البريطانية كلها، كما حمل نظام التأمينات الاجتماعية تكاليف باهظة، في إعادة إسكان المطرودين من منازلهم. فالدول التي تعتمد النظام التكافلي، لا يمكنها ترك مصير الناس في مهب الريح. وبالطبع هذا النظام التكافلي لا دخل لتاتشر به، لأنه يقوم على أساس تاريخي يعود إلى أكثر من قرن من الزمن.
من الواضح أن الإدارة الأمريكية، لم تتعلم من أخطاء غيرها، لا سيما من دولة كبريطانيا، تتمتع بعمق تاريخي، وتجربة حضارية ممتدة على مدى قرون، ولم تدفع مسؤولين فيها، للتخاطب الواقعي - أو حتى الجدال - مع آلان جرينسبان، الذي سيطر على خريطة الاقتصاد الأمريكي لأكثر من ست سنوات، حول السياسات التي يتخذها. فخلال الفترة الذي جلس فيه رئيس الاحتياطي الأمريكي السابق على كرسيه، لم نسمع عن أي خلاف واحد بسيط بينه وبين إدارة بوش، على الرغم من أن فترة جرينسبان شهدت سلسلة من الأحداث التاريخية في مقدمتها هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، والركود والانهيار الاقتصادي في آسيا، ومجموعة من الأزمات المالية الخاصة بالصناديق عالية المخاطر. وهذا يعني أن إدارة بوش، إما كانت تجهل ما يحدث على الساحة الاقتصادية الداخلية - وهناك مَن يرجح ذلك لأسباب تتعلق بتجارب هذه الإدارة مع القضايا الأخرى - أو أنها موافقة على ما يقوم به "كلينت إيستوود" الاقتصاد - كما أسميته في مقال سابق لي.
والمشكلة الرئيسية، أن جرينسبان الذي يتحدث بحرية كبيرة الآن، لأنه خارج المنصب، لا يجد غضاضة في وصف الأزمة المالية الراهنة في الولايات المتحدة، "بأنها لا تحدث إلا مرة واحدة في القرن، وأنها ستطيح بمزيد من المؤسسات والشركات المالية الكبرى والمتوسطة". فليس المطلوب منه أن يقول العكس، إذا كان توقعه صحيحا، ولكن المطلوب من هذا الرجل، أن يعلن تحمله جزءا من المشكلة. فالسياسات الاقتصادية، التي ترسم على مدى سنوات، لا ينحصر تأثيرها في أيام - سوداء أو بيضاء - ولا في أسابيع، بل بسنوات وعقود، وهناك من يقول تنحصر ربما بقرن كامل من الزمن.

الأكثر قراءة