التسونامي المالي .. ومستقبل الاقتصاد الخليجي!

التسونامي المالي .. ومستقبل الاقتصاد الخليجي!

لا تخلو أي وسيلة إعلام اليوم سواء كانت مسموعة أو مقروءة أو مرئية من آخر أخبار الأزمة المالية العالمية، كما انشغلت كل المحطات الفضائية باستضافة المحللين الاقتصاديين لإلقاء الضوء على أسباب هذه الأزمة لمعرفة نتائجها وآثارها في مختلف الدول والمواطن العادي في كل دولة، ومدى تأثره بما يحدث في القطاع المالي (البنوك) لماله من تأثير قوي ومباشر في ثروات الأفراد وتحويشة العمر، وهل بنوكنا معرضة للإفلاس (لا سمح الله) مثلها مثل البنوك الأمريكية أو الأوروبية؟؟
وقبل أن أبدأ في تحليل النتائج المتوقعة (نظرياً) لما يمكن أن يحدث على مستوى المملكة ثم على المستوى العالمي لا بد لي في البداية أن أطمئن القارئ العزيز بأن البنوك السعودية ليست معرضة للإفلاس خلال هذه الأزمة المالية، وذلك ليس لأن نظامنا المالي محصن ضد الأزمات العالمية، ولا يتأثر بما يحدث من حولنا في العالم، كما يدعي البعض!! ولكن لأن الأزمة المالية الحالية (التسونامي المالي) سيفقد كثيرا من قوته الكاسحة قبل أن يصلنا، لأن هناك الكثير من البنوك الأمريكية والأوروبية التي ستتلقى الضربة الأولى، وتمتص جزءا كبيرا من قوتها قبل أن تصل إلينا، وهذا شيء طبيعي لا يد لنا فيه، ولكن هي من تركيبة علم الاقتصاد, والعلوم الكونية، فإن الدمار الذي يكون في مركز الزلزال يكون هو الأشد ثم يتضاءل بالتدريج كلما ابتعدنا عن المركز.
مدى تأثرنا بذلك؟

وعلى الرغم من أن بنوكنا المحلية لديها ودائع واستثمارات ضخمة في البنوك الغربية (أمريكا وأوروبا) إلا أن تلك الودائع والاستثمارات رغم كبرها لا تمثل نسبة كبيرة جدا من مجموع أصولها، كما أن النظام النقدي والمالي السعودي منضبط أكثر مما هو في الاقتصادات الحرة بالكامل في أمريكا وأجزاء من أوروبا!! وذلك من تركيبة نظامنا المالي والنقدي الذي يتسم بالمحافظة والتحوط، والذي كان يعد إلى وقت قريب عيبا من عيوب هذا النظام، ولرب ضارة نافعة!!
إن الخوف من انكسار نظامنا المالي تحت وطأة هذه الأزمة هو بعيد الاحتمال وغير متصور حالياً، ولكن ذلك لا يعني أنه لن تكون هناك خسائر، وأن حجم تلك الخسائر سيتوقف على مدى قوة هذه الأزمة، ومداها الزمني. فكلما امتد بها الزمن كانت الخسائر أكبر، وكذلك مدى شموليتها، بعد أمريكا وأوروبا، فحتى الآن لم نسمع عن إفلاس أي بنوك خارج أمريكا وأوروبا، وكل الدول الأخرى بدأت في اتخاذ إجراءات حمائية من انتقال العدوى إليها (كرنتينة) وتحصين مؤسساتها المالية من هذا التسونامي المالي، ولا بد من أن السلطات الاقتصادية والمالية لدينا قد اتخذت الإجراءات المطلوبة لحماية مؤسساتنا من تلك الآثار، والتقليل من الخسائر المتوقعة، ولا أدري هل هو من حسن أو سوء الطالع أن تحدث تلك الأزمة خلال إجازة العيد الطويلة جدا هذا العام، حيث إن جميع أجهزة الدولة معطلة خلال هذه الأيام العصيبة، كما أن البنوك وسوق المال في إجازة وإن كانت أقصر؟؟
ولن نتمكن من معرفة ما اتخذته السلطات المالية لدينا من إجراءات لحماية الاقتصاد الوطني من هذه الأزمة الطاحنة إلا بعد الإجازة وعودة الموظفين إلى مكاتبهم لإدارة الاقتصاد الوطني في وقت الأزمات.

ما حجم الضرر؟

من المستحيل تقريبا أن نحدد الآن حجم الأضرار بالضبط التي يمكن أن تنالنا من هذه الأزمة العالمية لأنها تعتمد على عدة عوامل متداخلة:
أولا: كيف ستنجح الإدارة الأمريكية في معالجة هذه الأزمة وإلى أي مدى؟ فهم السبب الرئيسي خلفها، وهم المتضرر الأكبر منها.
ثانياً: كيف ستتصرف الدول الأوروبية في مواجهة تلك الأزمة؟ فهم المتضرر الثاني منها، ولديهم وسائل دفاعية جيدة أمامها يمكن استعمالها الواحدة تلو الأخرى .
ثالثاُ: كيف ستتصرف بقية دول العالم وتتعاون فيما بينها لتحصين مؤسساتها المالية ضد آثارها المدمرة؟
فليس هناك دولة في العالم محصنة بالكامل ضد هذه الأزمة، إلا جزر الواق الواق التي ليست لها علاقات اقتصادية أو مالية مع بقية العالم!! فالاقتصاد العالمي اليوم أصبح مثل الجسد الواحد، إذا أشتكي منه عضو، تداعي له بقية الأعضاء بالحمى والسهر، ولن ينام العالم ويهدأ إلا بعد أن تمر هذه الأزمة على خير إن شاء الله .
إن أكثر ما يقلق الاقتصاديين الآن هو أن تؤدي هذه الأزمة المالية إلى كساد عالمي حقيقي، حيث تفلس الشركات التي انخفضت أسعار أسهمها في البورصات العالمية، مما يؤدي إلى إغلاق بعض المصانع والشركات الكبيرة وتسريح العمال، أي انتشار البطالة على نطاق كبير في أمريكا وأوروبا، أي انخفاض الطلب الكلي على السلع والخدمات التي تقدمها الشركات الأخرى، مما يؤدي إلى انخفاض إيراداتها وبالتالي إفلاسها، وهكذا دواليك، كما حدث سابقا في منصف الثلاثينيات من القرن الماضي.
مثل هذا السيناريو هو ما يقلقني ويقلق جميع الاقتصاديين في العالم، لأن حدوث مثل ذلك الاحتمال سيعني كارثة اقتصادية عالمية لن ينجو منها أحد، لأن بترولنا، وهو المصدر الوحيد للدخل لدينا، يعتمد على الطلب العالمي، وإذا انخفض الطلب على البترول بسبب الكساد في كل دول العالم، فسينخفض السعر بدرجة كبيرة، بل ستنخفض أسعار جميع السلع والخدمات، لأنه لن يكون هناك مشتر، إذا كان ذلك المشتري عاطلا عن العمل وليس لديه ما ينفقه سوى على المأكل والملبس!!

النصف الممتلئ من الكوب

الكساد العالمي هو النصف الفارغ من الكوب كما يقولون، ولكن النصف الممتلئ من الكوب (أي النظرة التفاؤلية) هي أن الأزمة الحالية مازالت تعد أزمة مالية فقط، وليست أزمة اقتصادية، والحلقة المالية ما هي إلا حلقة واحدة في السلسلة الاقتصادية، وفي تقديري الخاص أن هذه الأزمة المالية الحالية لن تتطور لتصبح أزمة اقتصادية عالمية (كساد) بل إنه سيتم احتواؤها خلال الأشهر الستة أو السنة المقبلة، وذلك لعدة أسباب أهمها ما يلي :
* إن العالم اليوم ليس كما كان في الثلاثينيات من القرن الماضي، فنحن الآن أكثر علما ودراية بميكانيكية علم الاقتصاد وكيفية تحرك المتغيرات الاقتصادية، وأكثر سيطرة مما سبق ولدينا الوسائل الكفيلة بتجنيب العالم مثل ذلك السيناريو، إن صدقت الجهود ووضحت الأهداف.
* إن الحكومات الغربية اليوم ليست كما كانت في الماضي حيث تلعب دورا محوريا في تسيير دفة الاقتصاد، كما أن لديها كثيرا من التشريعات التي تضمن لها التدخل في وقت الأزمات.
* هناك كثير من الوسائل المالية والاقتصادية التي يمكن اللجوء إليها الواحدة تلو الأخرى للتغلب على الأزمة الحالية، ولكنها تستلزم التعاون ما بين الدول بعضها مع بعض.
* وجود المنظمات الاقتصادية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك التسويات الدولي، التي لم تكن موجودة خلال الكساد العالمي السابق، التي يمكن الاستعانة بها في تقديم العون المادي والمعنوي المحايد لحل الأزمات العالمية بشفافية كاملة ومن دون محاباة لدولة على أخرى.

الخلاصة

حتى يمكن وضع حلول للأزمة الحالية التي عرفت أسبابها لابد من وضع حلول جذرية ودائمة وليست شكلية لمعالجة الخلل في النظام المالي العالمي الحالي، وزيادة الرقابة والشفافية في أعمال المؤسسات المالية وعدم تركها لأهواء ومطامع فئة محدودة من الماليين المتنفذين في دوائر المال العالمية، والحد من المضاربات الهوجاء على كل المنتجات المالية الحديثة التي أصبحت من دون ضابط أو رابط بحجة حرية السوق وعدم تدخل الحكومات في النواحي المالية والاقتصادية.
وقد يكون هذا درسا مناسبا لكل الدول التي كانت تقدس حرية السوق بعد فشل النظام الاشتراكي، وظنت أن النظام الرأسمالي الحر خال من العيوب، وأخذت تبشر به في أنحاء العالم، وتجبر الحكومات الأخرى على عدم التدخل في حرية الأسواق، ورأينا أن انعدام الرقابة والشفافية لا يقل ضررا عن تدخل الدولة في كل شيء.
والمطلوب الآن من الدول الخليجية إعادة النظر في علاقاتها المالية والنقدية مع أمريكا، فلم تعد أمريكا هي القوة الاقتصادية الوحيدة في العالم، فقد ظهرت قوي اقتصادية جديدة مثل الاتحاد الأوروبي، الصين، روسيا، الهند، والبرازيل، كما لم يعد الدولار بمثل قوته السابقة، ويجب أخذ تلك التغيرات بعين الحسبان كما يجب البحث عن سلة عملات لتحل محل الدولار، ونقترح أن تكون السلة من (الدولار، اليورو، الين، اليوان، الروبل) بنسب متساوية.
كما يجب على الدول الخليجية زيادة التعاون مع بقية دول العالم الثالث في المجالات المالية والنقدية من خلال المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث إنه من خلال هذه المنظمات سيكون لها قدرة أكبر على التأثير في اتخاذ القرارات المهمة، بدل أن تتخذ تلك القرارات في غياب أي تأثير أو تقدير لمصالحها الاستراتيجية.
لقد أصبح للدول الخليجية مصالح مالية متزايدة نتيجة تزايد الفوائض المالية التي تحققت لها خلال السنوات القليلة الماضية، ولا نريد لهذه الأموال أن تتبخر بسرعة تحت حرارة الأزمة المالية الحالية، التي لم يكن لنا يد فيها، ولكننا سنتأثر بها شئنا أم أبينا.

أستاذ الاقتصاد بجامعة الملك عبد العزيز - جدة

الأكثر قراءة