فلنستعد: الدولار غارق في الأزمة من رأسه إلى أخمص قدميه
الوقفة الأولى
ما إن هدأت الأسواق العالمية بعد التصاعد الحاد لأسعار النفط، حتى بدأت أزمة الرهن العقاري الأمريكية، التي طالت أكبر مؤسستين ماليتين تقدمان نحو 50 في المائة من إجمالي القروض العقارية في الولايات المتحدة، تبعها هبوط بأكثر من 90 في المائة لمؤسسة إيه. آي. جي للتأمين منذرة بإفلاس أكبر مؤسسة مالية تأمينية في العالم. سبقها إعلان إفلاس بنك ليمان برذرز، الذي تأسس قبل 158 سنة. وبينما كانت البنوك المركزية العالمية تضخ مليارات الدولارات في شرايين الأسواق المالية العالمية رغبة في إنعاشها خشية من سقوطها وتهاوي كياناتها الاقتصادية، وافق مجلس النواب الأمريكي على خطة الحكومة من أجل علاج التصدعات الكبيرة جراء هذه الأزمة العالمية، التي تقدر بنحو 700 مليار دولار. وقد بلغ مجموع ما تم ضخه من البنوك المركزية الستة الفيدرالي الأمريكي، الأوروبي، السويسري، بنك إنجلترا، بنك اليابان، وبنك كندا 247 مليار دولار. هذه المبالغ وسرعة ضخها تُنذر بحساسية الوضع وسرعة علاجه، لأن التأخير ستكتوي بناره كل الاقتصادات العالمية، فالنار من مستصغر الشرر.
الوقفة الثانية
الدولار..غارق في الأزمة من قمة رأسه الى أخمص قدميه، ما هي قصة رحلته إلى عالم الشهرة؟ قاعدة الذهب كانت السائدة قبل الحرب العالمية الأولى ومن خلالها تحدد كل دولة قيمة عملتها بوزن معلوم من الذهب، وهو ما يعرف بسعر الصرف الثابت. ما بين الحربين العالميتين تم هجر قاعدة الذهب والأخذ بسعر الصرف الثابت، ما أدى إلى ضعف في التجارة الدولية بسبب سياسات عدة منها السياسات الحمائية والرقابة على الصرف. اتفاقية بريتون وودز شجعت الجمود في أسعار الصرف، لأن كل دولة توجه سياساتها الداخلية من أسعار ودخول بغض النظر عن التوازن الخارجي، ما سبب شحا في السيولة أو النقود الدولية، شجع هذا على ظهور وسائل دفع جديدة للمدفوعات بحيث تتمكن كل دولة من تأمين التوازن الداخلي ومواجهة العجز في ميزان المدفوعات. ولأن نظام بريتون وودز أكد على وسيلة دفع واحدة هي الذهب، إلا أن الذهب غير كاف لتغطية المعاملات التجارية الدولية، لذا ظهرت الحاجة إلى عملة دولية تستخدم إلى جانب الذهب يُحتفظ بها كاحتياطيات. وبعد خروج الدول من الحرب العالمية الثانية محطمة اقتصاديا كانت الولايات المتحدة في أوج ازدهارها وقوتها الاقتصادية، حيث زاد إنتاجها من السلع المدنية وانهالت الطلبات على البضائع الأمريكية لتعمير ما خلفته الحرب، ومن ثم زاد الطلب على الدولار وأخذ مكانه في السوق العالمية ولا يزال.
الوقفة الثالثة
لكن هل لهذه الأزمة إرهاصات؟ في أواخر الثمانينيات والتسعينيات الميلادية، اشتكى العالم من أزمات مصرفية عدة مر بها بعض البلدان، ومن أهمها مشكلة الديون العالمية، التي من نتائجها انهيار بنك الاعتماد والتجارة الدولي وما تلاه من شعور سلبي أثر في مناخ الاقتصاد العالمي، والدليل على هذا الشعور كثرة الاندماجات للمؤسسات المصرفية البنكية على المستوى العالمي في الولايات المتحدة، اليابان، وبريطانيا وغيرها من الدول. بُعيد توقيع الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة عام 1994 من طرف العديد من الدول، والعلاقات الاقتصادية، التجارية، الثقافية والاجتماعية في تداخل وتشابك، حيث نتج عن هذا التمازج ما يسمى بالعولمة. في ثنايا هذه الاتفاقية حرية تنقل رؤوس الأموال والبضائع بسهولة، التي من أهم آثارها الدخول والخروج السريع لرؤوس الأموال، التي قد تحمل آثاراً ضارة في الاقتصاد الوطني في ظل ضعف هذه الاقتصادات وقلة خبرتها وتجربتها. يضاف إلى ذلك الأزمات التي تنتج عن هروب الأموال المضاربة ودخول غسيل الأموال، ومدى تأثير ذلك في السياسات المالية والنقدية المحلية، ولعل تجربة الأموال الساخنة التي مرت بالنمور الآسيوية وحديثا بالإمارات المتحدة في أيلول (سبتمبر) من هذا العام خير شاهد على هذا الضرر.
الوقفة الرابعة
إذا استمر النظام المالي العالمي على هذه الشاكلة، فستستمر الأوضاع نفسها مستقبلا، ولعل الشواهد الحالية تؤكد حتمية وقوع أزمات أخرى من هذا النوع، بل قد تكون أكثر حدة من سابقتها. وللتدليل على ذلك، لننظر إلى الوضع في أكبر اقتصاد مؤثر على المستوى العالمي.
أولا: استخدام الدولار كاحتياطي وحيد مشكلة في حد ذاتها. فهو يلعب دور العملة الوطنية ويتماشى مع السياسات المحلية الأمريكية، وما ينتج عنها من تضخم وركود وانتعاش، كما أن له دورا آخر حيث يستخدم وسيلة للوفاء بالالتزامات الدولية. هذا الدور المزدوج مكّن الولايات المتحدة من تحقيق مكاسب من إصدار هذه العملة، بينما بقية البلدان لا بد لها من زيادة الإنتاج من السلع والخدمات من أجل الحصول على العملة الخضراء. المشكلة عندما لا يكون هناك توائم ما بين السياسات المحلية الأمريكية والاحتياجات العالمية من الدولار تمثل خطورة على النظام النقدي العالمي المعتمد على عملة واحدة، وعلى هذا فالدولار يُعد دينا على الولايات المتحدة لأن الاحتياطيات الدولارية تستثمر على شكل سندات وأذونات خزانة قصيرة الأجل، فأي تصفية بشكل جماعي لهذه الاستثمارات ستخلق نوعا من البلبلة في الأسواق المالية.
ثانيا: العجز الضخم في ميزان المدفوعات الأمريكي وما ينتج عنه من تمويل لهذا العجز عن طريق الإصدار النقدي أو الاقتراض من المواطنين وأثره في الاستهلاك، ومن ثم الطلب العالمي. لاحظ أن الولايات المتحدة أكبر الشركاء التجاريين لليابان والصين وغالبية الدول، فمن المؤكد أن تتأثر الاقتصادات الدولية الأخرى بأي قلق في الأسواق المالية الأمريكية.
ثالثا: استمرار الولايات المتحدة كشرطي للعالم ودخولها المباشر وغير المباشر في كثير من بؤر التوتر في العالم سيزيد الأعباء المالية عليها، وبالتالي زيادة العجز في ميزان المدفوعات ومن ثم إعادة الاقتراض وانخفاض الدولار، ما يخلق جوا من القلق في الأسواق المالية العالمية.
رابعا: سياسات الحزب الجمهوري الاقتصادية، تشجيع الاقتراض، وبالتالي زيادة الإنفاق لتحقيق الانتعاش الاقتصادي، لأن الإفراط في الاقتراض على حساب التوزيع العادل للدخول سيخلق أزمات مالية بسبب عدم القدرة على الوفاء.
الوقفة الخامسة
في ظل هذه المتغيرات الدولية الخطرة على أوضاعنا الخليجية ما السياسات التي من المفترض السير على خًطاها حتى نقلل من الأضرار المحتملة جراء هذه الأزمة على اقتصاداتنا؟
القطاع المالي بما يشمله من البنوك وشركات التأمين المتضرر الرئيس. فأي خطوة في اتجاه ضخ أموال لهذه المؤسسات المالية يجب أن تكون حذرة جدا، وليس بالمجان، لأن ضخ أموال في شرايين هذه المؤسسات سيدفعها إلى التعامل معها بالإقراض، ما يزيد المعروض من النقود وبالتالي انخفاض أسعار الفائدة، ما يجعلها تتضارب مع السياسات التحفظية التي ننتهجها. في اعتقادي أن تشجيع الاندماجات بين هذه المؤسسات سيعود بالنفع على الجميع لما تحققه هذه الاندماجات من فوائد. أما الأسواق المالية باعتقادي، ما عدا أسواق الإمارات، فأسباب التراجعات محلية الصنع في الغالب وليست خارجية المنشأ. ومع الفارق الكبير بين ميكانيكية عمل الاقتصاد الأمريكي، خاصة في الشأن النقدي مقارنة بالاقتصادات الخليجية، كون الخليجية تعتمد على تحويل الاحتياطيات إلى نقود محلية وما ينتج عنه من زيادة في المعروض النقدي، تبقى العملة الخليجية الموحدة هي الأمل بتحقق نوع من الاستقرار والسيطرة على التضخم. كما أنه من الضروري تلافي الارتباط بالدولار والتوجه إلى الربط بسلة من العملات لحماية العملة الوليدة والتخفيف من آثار هبوطات الدولار المتوقعة مستقبلا.
تداعيات الأزمة الحالية لا تطول الولايات المتحدة وحدها بل العالم أجمع، لذا علينا العمل مع المجتمع الدولي بأسره ككيان واحد من أجل التخفيف من آثارها، لأن التداعيات السلبية لا أحد بمنأى عنها.