الإعصار المالي العالمي .. الانغلاق أم التعاون؟

الإعصار المالي العالمي .. الانغلاق أم التعاون؟

ينطلق كثيرون في تحليل الأحداث الاقتصادية العالمية الساخنة من منطلقاتٍ ومشارب شتى. فمن ناظرٍ للأحداث الحالية من نافذة المؤامرة والاستغلال، آخر ينظر للتعاون والتكاتف الدولي من أوسع أبوابه، وإلى داعٍ بالويل والثبور على الغرب وأهله وليتحمل وزر ما جنت يداه. توضيح وتوظيف الحقائق العلمية بما يخدم الأهداف التي من أجلها تمت الكتابة واجب ديني، علمي، وأخلاقي. أما محاولة الإقناع وتوصيل الحقائق المُشوهة والمبتورة من أجل استدرار العواطف الملتهبة فطُويت مع صفحة الستينيات الميلادية الإعلامية.
الأزمة المالية الحالية خلقت نوعاً من الحوار الثقافي الاقتصادي ذي الاتجاهات المتعددة لكيفية الخروج من هذه الأزمة وتداعياتها على المستويات: المحلي، الإقليمي، والدولي. هناك خشية من وقوع البلدان النامية عموماً والخليجية على وجه الخصوص ضحية للركود، الذي إن استمر لفترة طويلة سيتحول إلى كساد تطول مدته وتثقل وطأته. إذاً هناك إجماع على الدواء لكن الاختلاف في مقاديره.
يُعرِف المكتب الوطني الأمريكي للبحوث الاقتصادية الركود الاقتصادي بأن يحقق الاقتصاد معدلات نمو سلبية لفترتين متتاليتين أو أكثر، حيث إن الفترة تُقدر بربع سنة مالية. أما معناه الواسع فانخفاض في دورة النشاط الاقتصادي تستمر لأكثر من بضعة أشهر وفيها ينخفض الناتج القومي الحقيقي والعمالة والإنتاج الصناعي والمبيعات. ومن باب الشيء بالشيء يُذكر، فالركود يرجع إلى عوامل عدة منها:
هبوط معدل النمو في الإنتاجية ورأس المال والعمالة وعناصر الإنتاج الأخرى وهذا يُسمى جانب العرض. أما انخفاض معدل النمو في الإنفاق فيُطلق عليه جانب الطلب. يحدث الركود في الأجل القصير بسبب التقلبات في الإنفاق الكلي وأحياناً يسمى بالدورات التجارية، حيث يشمل الإنفاق أربعة أنواع معروفة من الإنفاقات. فعندما ينخفض الإنفاق الكلي (الطلب) عن حجم الإنتاج (العرض) سيؤدي إلى وجود طاقة عاطلة وعمالة زائدة وتستطيع الدولة عن طريق السياسة المالية والنقدية معالجة هذه المشكلة في بداياتها حتى تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي. أما أسباب الدورات التجارية فيمكن تلخيصها في: التوقعات، حيث يسيطر التفاؤل والتشاؤم على السلوك الاقتصادي للبشر ما يؤثر في السلوك الاستثماري والاستهلاكي، الأحداث غير المتوقعة وتأثيرها في العرض والطلب مثل ارتفاع أسعار عناصر الإنتاج والأحداث العالمية، التي تؤثر في تدفق التجارة الخارجية وتقلبات أسواق رأس المال، وكذلك السياسة المالية والنقدية فقد يتأخر اتخاذ القرار بعلاج حالة الركود الاقتصادي في بداياته بسبب سوء تقدير صانع القرار الاقتصادي ما يضاعف من حدة المشكلة وديمومتها.
يلعب الاقتصاد الأمريكي دوراً محورياً في الاقتصاد العالمي، فهو يُعتبر محرك النمو للاقتصاد الدولي وجارا لعربته. وتُشير بعض الحقائق عن هذا الكيان إلى كبر حجمه وقوة تأثيره ومنها: الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة يشكل ربع الناتج العالمي، تجارتها السلعية تمثل 11 في المائة من إجمالي التجارة العالمية، تجارتها الخدمية تشكل 12,5 في المائة من التجارة الخدمية العالمية، استثماراتها المباشرة 13 في المائة، كما أن الاستثمار الخارجي فيها يُعادل 16 في المائة من الاستثمار العالمي.
أما في عام 2007 فقد ضخت الولايات المتحدة 4,4 تريليون دولار، دفعت منها أكثر من تريليونين على شكل واردات، دخل مدفوع للعالم على شكل عوائد استثمارات على السندات وخلافها تعادل 708 مليارات دولار، قروض 637 مليار دولار، مساعدات ومقدارها 335 مليار دولار، واستثمار في البورصات العالمية بـ 234 مليار دولار.
أما نسبة صادرات بعض الدول للولايات المتحدة، فعلى سبيل المثال: كندا 80 في المائة، المكسيك 82 في المائة، الصين 32 في المائة، اليابان 27 في المائة.
إزاء هذه الحقائق والحالة التي يعانيها الاقتصاد الأمريكي والعالمي، ما موقفنا منها سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. هل نقف موقف المتفرج منها ونحن نردد العبارات المألوفة والمشهورة من أن الغرب يُدبر لنا المكائد بافتعال هذه الأزمة المالية وغيرها؟ أم نضطلع بدورنا التاريخي والإسلامي والدولي ونمُد يدنا من أجل المساعدة مستذكرين أننا جزء من هذه المنظومة الدولية نتفاعل معها ونحس بآلامها وآمالها؟ بالتأكيد موقف المتفرج لن يُجدي، خاصةً أننا نعتمد على الغير في كثير من احتياجاتنا الأساسية، فمن مصلحتنا العمل معا مع الغير، حتى وإن كانت هناك تكاليف مباشرة أو غير مباشرة ندفعها الآن. على الصعيد الداخلي هناك عدة خطوات المُفترض تفعيلها من أجل مواجهة الأزمة، منها:
1- رقابة مشددة على إدارة الائتمان والإدارة المصرفية التقليدية وكذلك كفاية رأس المال تنفيذاً لاتفاقات بازل 1 و2 المتعلقة بحدود المضاربة في الأصول عالية المخاطر بالنسبة لرأس المال، وإمكانية تغطية الديون المشكوك في تحصيلها. كذلك الرقابة الصارمة من قبل البنوك المركزية على الوحدات المصرفية كافة كشركات الاستثمار والتأمين منعاً للفساد والهدر المالي، مع إمكانية تمديد آجال سداد مستحقات الشركات والمؤسسات المالية المُقترضة عند الضرورة.
2 - التأكيد على الضمان الكامل لكل المبالغ المُودعة، تم تفعيله، من قبل الأفراد والمؤسسات سواء كانوا مواطنين أو أجانب لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات أسوةً بغيرنا من الدول، كما أن يتم توفير السيولة الكافية للقطاعات المالية، وبما يتناسب مع السياسات المحلية وليس بالمجان حتى تعود الثقة ويتم الاقتراض بين الوحدات المصرفية وتدب الحياة في الجهاز المصرفي من جديد. من دون جهاز مصرفي نتحول من اقتصاد عيني إلى اقتصاد ذاتي كلٌ يُدير شؤونه الحياتية.
3 - تشجيع المؤسسات المالية والتجارية الراغبة في الاندماج، وذلك من أجل رفع كفاءة الإنتاج وتحقيق وفورات الحجم الكبير، كما أن المؤسسات المالية، سيساعدها الاندماج في توفير السيولة اللازمة للعمل المصرفي.
4 - قيام مجلس الشورى بمناقشة هذه الأزمة وخلفياتها وأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفتح المجال للراغبين في المشاركة من الجهات الأكاديمية والقطاعين الخاص والحكومي كافة والرفع بالتوصيات إلى القيادة من أجل اتخاذ ما تراه مناسباً في هذه الأحوال.
5 - قيام الجهات المالية السعودية بتوفير المعلومات كافة عن هذه الأزمة وما لحقت بالاقتصادين الدولي والمحلي من أضرار مع مراعاة الشفافية وتوضيح الحقائق كما هي.
أما على الصعيد الدولي وبعيداً عن نظرية المؤامرة والاستغلال والاستغفال، فالواجب علينا أن نترك بصمة واضحة في جبين الإنسانية. كثير من الدول كالصين واليابان ودول جنوب شرقي آسيا هبت إلى تقديم المساعدة المادية والمعنوية من أجل وقف هذا النزيف مدركةً أن مصالحها ستتضرر إن لم تفعل، كما أنها وعدت بالتعاون الكامل. وفي هذا المقام يُمكن التوصية بالآتي:
1 - التعاون التام مع المجتمع الدولي بحيث يشمل المساعدات المادية، تقديم المشورة، تنسيق السياسات البترولية، وبما يحقق مصالح الأطراف كافة.
2- تشكيل فريق عمل سعودي يشمل فئة من أهل الاختصاص يبحث هذه الأزمة مع المسؤولين الدوليين ومع الدول التي تعمل جاهدة من أجل التخفيف من آثار هذه الأزمة كالصين واليابان والهند ودول جنوب شرقي آسيا، وذلك من أجل تنسيق السياسات والأدوار التي يقوم بها كل طرف.
3 - المشاركة بتقديم الدعم المادي للدول الإسلامية الفقيرة، بهدف التخفيف من هذه الأزمة كون التهاون بها سيلحق الضرر بالجميع، خاصةً الدول النامية والفقيرة.
4 - قيام الصناديق السيادية الخليجية بالاستفادة من التملك والمشاركة في المؤسسات الإنتاجية وقطاعات التكنولوجيا، بحيث يتم تنويع هذه الاستثمارات بجانب الاستثمارات المالية.
الأزمة الحالية لا تحمل الجنسية الأمريكية بل العالمية، فالتعاضد والتكاتف مع الغير خيار استراتيجي لتحقيق مصالحنا المشروعة. وزن المكاسب والخسائر المتحققة جراء هذه الأزمة يُرجح كفة المكاسب التي ستتحقق من خلال العمل الجماعي المشترك والمدروس بعناية وجدية.

أكاديمي واقتصادي سعودي
[email protected]

الأكثر قراءة