على العالم أن يكون مستعدا لحرب ثالثة إذا منعت التجارة الحرة
فقد تشكلت هذه الرابطة في آب (أغسطس) عام 1967, في حالة من الفوضى والشك العميق في المنطقة, حيث تطلب الأمر من هذه الدول تطوير نفسها وتوحيد نشاطها لمدة عشر سنوات ولمواجهة التهديد الشيوعي فكانت في حاجة إلى الاستقرار والنمو وكانت تهدف إلى تحقيق أهداف اقتصادية, اجتماعية, ثقافية, وسياسية.
ويتناول لي كوان يو كيف استطاعت هذه الدول وقادتها أن تضع مهمة التنمية الاقتصادية من بين أولوياتها في هذه الرابطة, حيث دعت إلى تبني سياسة تحرير التجارة وذلك بالبدء بتخفيض 10 في المائة من الرسوم الجمركية على بعض السلع المختارة من قبل الدول الأعضاء, الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى منطقة للتجارة الحرة بينها. ولكن في المراحل الأولى لم تنجح في تخفيض الرسوم الجمركية, لكن كثرة اللقاءات المنتظمة والمتكررة بين الزعماء أدت إلى توطيد العلاقات الشخصية بينهم مما ساعد على حل المشكلات الثنائية بصورة غير رسمية, واستطاعت هذه الدول أن تتعامل مع الدول المتقدمة كمجموعة لا كدول متفردة مما كان له أثر إيجابي عليها.
وبحلول منتصف الثمانينيات من القرن العشرين وطدت هذه الدول أركان الرابطة التي تجمعهم كتجمع عالمثالثي عقلاني, ففتحت أبواب اقتصاداتها أمام التجارة والاستثمارات الأجنبية حسب توصية البنك راوحت بين 6 و8 في المائة سنويا طيلة أكثر من عقد من السنين, وتميزت بديناميكية اقتصادية جعلتها محط أنظار الشركات الكبرى في العالم من أستراليا, نيوزلندا, اليابان, أمريكا, وأوروبا الغربية. وفي عام 1992, قرر زعماء الرابطة في قمة سنغافورة أن تتحول المؤتمرات السنوية على مستوى ما فوق الوزراء إلى منتدى لمناقشة الشؤون السياسية والأمنية. وانضمت إليها دول أخرى هي فيتنام عام 1995, وميانمار ولاوس 1977 وكمبوديا 1999.
شرق آسيا في خضم الأزمة (1997 ـ 1999)
تعرضت هذه الدول لدمار مفاجئ لاقتصاداتها عام 1997, مما أثر سلبا في موقفها وقدرتها على لعب دور عالمي مهم. وقد تأثرت هذه الدول في أسعار صرف عملاتها مقابل الدولار والعملات الحرة الرئيسة في العالم. وقد أوصى عدد من المصرفيين الأمريكان العاملين في سنغافورة بمزيد من المرونة في معدلات الصرف, ولكن لم يستمع المسؤولون في المصارف المركزية إلى نصيحتهم هذه مما أدى إلى ازدياد العجز في حساباتهم الجارية. وزادت الواردات على حساب الصادرات, مما أدى إلى عجز في العملة الأجنبية لسداد الديون الأجنبية. وكان دولار سنغافورة غير مرتبط بالدولار الأمريكي ولكن تتحكم في سعره سلسلة من عملات الدول التي تتعامل معها أي شركاءها التجاريين الرئيسيين, وكان لهذا الدولار سعر صرف ثابت مقابل الدولار الأمريكي حتى منتصف التسعينيات وكانت معدلات الفائدة عليه أقل بكثير من الفائدة على الدولار الأمريكي لأن الشركات السنغافورية لم تكن عرضة لإغراء الاقتراض بالدولار الأمريكي ولم يكن عليها سوى القليل من الديون بالدولار الأمريكي.
ويتساءل لي كوان يو عن الخطأ الذي ارتكب من المسؤولين في هذه الدول وأدى إلى هذه الأزمة وكوريا تعمل بكامل طاقاتها وتم تحويل العديد من الاستثمارات إلى مشاريع ذات قيمة مشكوك فيها. ويتجاهل الجميع مواطن الضعف المؤسسية والبنيوية في هذه الاقتصادات. ورأى أن وضع هذه الدول سيكون أفضل لو أنها حررت حسابات رأسمالها بصورة تدريجية أكبر, وامتلكت الوقت الكافي لبناء نظام المراقبة والتحقق والسيطرة والتحكم في تدفق رأس المال من غير الاستثمارات المباشرة الأجنبية لضمان دخوله في الاستثمارات الأجنبية. ولكن الذي حدث هو توجيه الاستثمارات الضخمة إلى الأسهم والعقارات ومباني المكاتب والملكيات المشتركة, ثم استخدمت هذه الأسهم والعقارات بدورها كضمانات إضافية للاقتراض, مما زاد في تضخم فقاعة الأصول. والغريب أن المقرضين كانوا على علم بهذا التسيب لكنهم قبلوه كطريقة للنشاط التجاري في الأسواق الجديدة, بل إن بعضهم رأى في وجود الشركاء التجاريين ذوي الارتباطات السياسية ضمانات حكومية مستترة للقروض, ولذا استمروا في ممارسة اللعب. ومن الملاحظ هنا أن لي كوان يو يشير إلى تجربة مهمة يمكن أن تشكل درسا للدول التي تسعى إلى اجتذاب الرساميل الأجنبية التي لديها استثمارات ضخمة بحيث إنها يجب أن توجه هذه الاستثمارات إلى القطاعات الإنتاجية وأن تقلل قدر المستطاع من الاستثمار في القطاعات الهامشية وغير المنتجة كالاستثمار في أسواق المال والعقارات والمضاربات التي لا تضيف جديدا للاقتصاد الوطني ولا يكون لها مردود إيجابي على الدخل الوطني. ولقد ضغط وزراء مالية الدول السبع الكبار على دول الرابطة لتحرير أسواقها المالية وحركة انتقال رأس المال فيها, ولكنهم لم يوضحوا لمسؤولي المصارف المركزية ووزراء المالية في هذه الدول مدى الأخطار المتأصلة في الأسواق المالية المعولمة.
حيث يمكن لمبالغ مالية هائلة أن تتدفق إلى أو من بلد إلى بلد بلمسة على مفتاح الكمبيوتر. ويرى لي كوان يو أنه كان يجب معايرة تحرير التجارة والاقتصاد وبعناية أكبر تبعا لمستوى كفاءة وتطوير أنظمة هذه الدول المالية, وكان يجب عليها تركيب "قواطع للدائرة" أي نقاط للتحكم بأي تدفق مفاجئ للأموال إلى الداخل, إو إلى الخارج. وبهذا يشير لي كوان يو إلى نقطة مهمة وهي أن الانفتاح الاقتصادي دون ضوابط أي فتح الباب على مصراعيه من شأنه, إذا لم توضع له ضوابط محددة تكفل كبح جماح أية حركة مفاجئة يمكن أن تؤثر في اقتصاد الدولة تأثيرا سلبيا، من المتوقع أن تكون له نتائج غير مأمونة العواقب وهو ما حدث بالنسبة لدول جنوب شرق آسيا.
فقد انهارت ثقة المستثمر الأجنبي في هذه الدول, فبعد أن كان هناك ما يشبه "الهوس" في أسواق هذه الدول بتدفق أموال المستثمرين بغزارة أصبح هناك "هلع" أصاب السوق فجعل المستثمرين يسرعون فرادى وجماعات نحو إخراج أموالهم منها. وكان للفساد الذي أصاب كبرى الشركات "مثل شركات تشايبول" هانبو في كوريا الجنوبية أثر واضح في زيادة حدة الأزمة بحيث اجتاح دول المنطقة ما يعرف بالإعصار المالي.
ويشير لي كوان يو إلى ما يميز الأزمة الاقتصادية في شرق آسيا عن مثيلاتها في أمريكا اللاتينية وهو الثقافة والقيم الاجتماعية, حيث عزا النقاد الغربيون هذه الأزمة إلى "القيم الآسيوية" التي تتمثل في محاباة الأقارب والأصدقاء والمحسوبية والفساد والممارسات التجارية التي تتم عبر الباب الخلفي "أو تحت الطاولة". ورأى أن هذه الأسباب ليست السبب الرئيسي لأن هذه المثالب والعيوب كانت مستوطنة من قبل في هذه الدول منذ انطلاق المعجزة الآسيوية في الستينيات.
وترى أن هناك منظومة أخرى للقيم في هذه الدول تتمثل في الهندوسية, الإسلامية, البوذية, والكونفوشيوسية, حيث استخدم المنصب الرسمي لمنح المزايا والخدمات للأسرة والأصدقاء. ويرى أن سنغافورة استطاعت تجاوز هذه الأزمة بشكل أفضل من سواها بسبب غياب الممارسات المنحرفة كالفساد والمحسوبية التي تعوق عملية توزيع وتخصيص الموارد, فالمسؤولون الرسميون يمارسون دور المحكم لا المشارك في السوق.
وبعد عامين من الأزمة أي في عام 1999, استطاعت دول المنطقة أن تستعيد عافيتها, فالمدخرات المرتفعة أبقت على انخفاض معدلات الفائدة وأدت إلى انطلاقة مبكرة تتجاوز ما حصل, واسترد مديرو المؤسسات المالية الأجانب تفاؤلهم وعادوا إلى البورصة "سوق الأوراق المالية" مما حسن معدلات وأسعار الصرف.
ويرى أن هذه الأزمة يمكن أن تشكل دروسا وعبرا مفيدة لزعماء هذه الدول ولغيرهم لبناء أنظمة مصرفية ومالية أكثر قوة وتحملا مع قوانين وقواعد سليمة ومراقبة وإشراف أكثر فاعلية. وفي منظمة التجارة العالمية يمكن الاستفادة من هذه الدروس بالأخذ في الاعتبار أن استخدام رأس المال دون مراعاة قوى السوق قد يصبح عملية مدمرة، فمن الأفضل تخصيص الموارد وتوزيعها في ضوء قوى السوق. ثم يشير لي كوان يو إلى تجربة بلاده عند دخولها نادي الكومنولث 1965. واستضافت سنغافورة مؤتمر الكومنولث في كانون الثاني (يناير) 1971 الذي ناقش مثل غيره من مؤتمرات، العديد من المسائل الاقتصادية وغيرها من القضايا الساخنة، وحضر لي كوان يو مؤتمرات الكومنولث حتى عام 1989، وكان يرى أن دول الكومنولث التي بدأت منذ عام 1962 كانت رابطة بسيطة تشبه ناديا صغيرا نسبيا، تميز بالصلات التاريخية العميقة والوثيقة بين بريطانيا ومستعمراتها السابقة، وعلى الرغم من أن هناك روابط اقتصادية وسياسية وشيجة تجمع الدول المستقلة حديثا، وبالرغم من أن بريطانيا مازالت الشريك التجاري الرئيسي لها، إلا أنها قد أصيبت بالذعر لأنها شعرت أن بريطانيا قد تخلت عنها بعدما خاضت إلى جانبها حربين كونيتين، ولا سيما بعد انضمامها إلى السوق الأوروبية المشتركة، ومن أهم المواضيع الساخنة التي كان يناقشها مؤتمر الكومنولث: النظام الاقتصادي العالمي الجديد, الحوار بين الشمال والجنوب، التعاون بين دول الجنوب، روديسيا، النظام العنصري، وفي كل مؤتمر منح كل رئيس حق التعبير عن موقفه ويستمع الباقون إليه. ثم يشير لي كوان يو إلى الروابط الجديدة بين سنغافورة وبريطانيا بعد رحيل بريطانيا من بلاده ومع ظهور النظام الاقتصادي العالمي الجديد، تلك الروابط التي حاول الطرفان بها أن يبقوا على العلاقات القديمة على الرغم من ظهور الاقتصاد الياباني والألماني والفرنسي، ومحاولة الحلول محل البريطانيين في سنغافورة. وفي الثمانينيات نمت التجارة السنغافورة – بريطانية بدرجة كبيرة. وعندما حررت حركة رأس المال زادت الاستثمارات البريطانية في سنغافورة وكانت ذات طبيعة مختلفة مثل منتجات القيمة المضافة المرتفعة كالمستحضرات الصيدلانية والإلكترونيات والصناعات الفضائية، وبحلول التسعينيات عادت بريطانيا لتصبح واحدة من الدول المستثمرة الكبيرة في سنغافورة، حيث احتلت المرتبة الرابعة بعد الولايات المتحدة واليابان وهولندا. ثم يتناول لي كوان يو استثمارات سنغافورة في الخارج، حيث إنها اتجهت بالدرجة الأولى إلى جنوب شرق آسيا، واتجه العديد من المقاولين ورجال الأعمال إلى الاستثمار في بريطانيا ولاسيما في قطاع السياحة.
ثم يشير إلى مسألة مهمة تتعلق بارتفاع معدلات النمو في دول شرق آسيا مقارنة بمعدلات النمو البطيئة في بريطانيا وأوروبا، ويعزو جانبا من هذا الارتفاع إلى ما تقوم به صناديق التوفير المركزية، من تمويل عمليات شراء البيوت وخدمات الرعاية الطبية مما يخفف عن كاهل الخزانة العامة للدولة.
ولم تكتف سنغافورة بعلاقاتها مع حليفتها القديمة بريطانيا، بل أقامت روابط وثيقة مع دول أخرى مثل أستراليا ونيوزيلندا، وكان هناك تقارب في الآراء بين قادة هذه الدول حول قضايا الأمن الإقليمي، وكانت علاقات سنغافورة مع هاتين الدولتين تتم عبر بريطانيا، ويشير لي كوان يو إلى الشبه الكبير الذي يجمع النيوزيلنديين بالبريطانيين من حيث العادات والسلوك، فالخادمات في الفنادق يلبسن المترز مثل الخادمات البريطانيات بعد الحرب ويحضرن "شاي الصباح" قبل الفطور، حتى إن لهجتهن أشبه بلهجة البريطانيين.
ويتناول لي كوان يو تحت عنوان "أساطير وزعماء جنوب آسيا" جوانب من شخصيات الزعماء الوطنيين والقوميين في المستعمرات البريطانية مثل نهرو وغيره، وكيف التقى به أكثر من مرة في دلهي، ومع ابنته أنديرا غاندي، ويشير إلى جانب من شخصيتها فيقول إنها "كانت أصلب رئيسة للوزراء قابلتها، كانت أنثى لا تعرف اللين، وزعيمة سياسية أشد تصميما وقسوة من مارجريت تاتشر، وباندرانايكه، وبينازير بوتو، كانت زعيمة عملية وبراغماتية تركز اهتماماتها بالدرجة الأولى على آليات السلطة وكيفية اكتسابها وأساليب ممارستها، وهي تبدو أشد صرامة عندما تتعرض وحدة الهند للتهديد".
ويشير إلى التجربة الاقتصادية في الهند، وأنها تحتل المرتبة الثانية في انتشار الفساد بين دول آسيا، وهي واحدة من بين الدول العشر الأشد فسادا في العالم، على الرغم من أنها بلاد لم تتحقق عظمتها ولم تستغل طاقاتها الكامنة.
ثم يحكي تجاربه وزيارته وعلاقاته مع دول أخرى من جنوب شرق آسيا مثل سريلانكا وسيلان وكولومبو وباكستان، ثم يعود إلى تعقب خطى بريطانيا إلى داخل أوروبا، وكيف فكرت بريطانيا في الانضمام إلى أوروبا للتخلص من مصاعبها الاقتصادية المتواترة نتيجة للنمو البطيء مقارنة بمعدلات النمو الأسرع في ألمانيا وفرنسا ودول البنيلوكس. وسعى لي كوان يو إلى إقامة علاقات مع أوروبا لفتح الأسواق الأوروبية أمام صناعات بلاده، ونجحت رابطة دول جنوب شرق آسيا عام 1980 في إقناع دول الجماعة الأوروبية بتوقيع اتفاقية لتشكيل لجنة تعاون مشتركة لترويج وتشجيع الأنشطة الاقتصادية، واتجه إلى إقامة علاقات ثنائية مع الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا، وإلى إقناع الأوروبيين بأن بلاده ودول جنوب شرق آسيا منطقة واعدة للاستثمار. ويقول لي كوان يو في إطار تشجيعه ودعمه للتوجه نحو الانفتاح الاقتصادي "إن على العالم الاستعداد لاندلاع حرب أخرى إذا منعت التجارة الحرة". ثم يعرج لي كوان يو على موضوع انهيار الإمبراطورية الشيوعية "الاتحاد السوفياتي"، وكيف أقامت بلاده علاقات دبلوماسية كاملة معها عام 1968، ويشير إلى الخطأ الذي وقع فيه جورباتشوف، حيث بدأ بسياسة الانفتاح "غلاسنوست" قبل سياسة البناء "بيروسترويكا". ويرى أن تفكك الاتحاد السوفياتي لم يؤثر في سنغافورة بسبب ضآلة حجم العلاقات الاقتصادية بين البلدين. ويشير إلى أن أمريكا قامت بدور مهم في هذا التفكك، حيث نسقت عمليات مناهضة الشيوعية، ويوضح الدور الذي لعبته بلاده في هذه المرحلة في فيتنام، وكيف تم توقيع اتفاقية استراتيجية بين سنغافورة والولايات المتحدة، وإلى جدول أعمال أمريكا الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودورها في منطقتي الشرق الأوسط والشرق الأقصى. ويرى أن علاقات سنغافورة مع الولايات المتحدة ستمر بحالات من المد والجزر، لأن سنغافورة جزيرة صغيرة مكتظة السكان، تقع في منطقة مضطربة، ولا يمكن أن تحكم تبعا للطراز الأمريكي. ومع ذلك فإن وجود الولايات المتحدة في آسيا قد ضمن الأمن والاستقرار وجعل النمو الاقتصادي ممكنا. فقد ساعدت أمريكا في تسريع هذا النمو عبر فتح أسواقها أمام صادرات الدول غير الشيوعية، ثم يعقب على ذلك بقوله "لو كسبت اليابان الحرب لاستعبدتنا حتما. ولو لم تدخل الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، واستمر البريطانيون في وجودهم كقوة كبرى في آسيا لما نجحت سنغافورة والمنطقة في عملية التصنيع بمثل هذه السهولة إذ لم تكن بريطانيا تسمح لمستعمراتها بالتقدم في المجال الصناعي لكن النسق السياسي الأمريكي يمكن أن يثير أعصاب أصدقاء الولايات المتحدة ويفقدهم الثقة بها. ولم يفت لي كوان يو أن يتناول في كتابه التجربة الرائدة في اليابان، التي اعتبرها معجزة آسيا الأولى.
ويرى أن الحكومة اليابانية تقرر، أكثر من كل الدول الرئيسية الأخرى، أهمية الدول النامية تبعا للقيمة الاقتصادية لكل منها بالنسبة لليابان. فمثلا سنغافروة لا تملك موارد طبيعية، ولذلك فإن مرتبتها متدنية من حيث الأهمية في نظر اليابان. ويروي بعض الدروس والعبر من اليابان وكيف استطاعت إعادة بناء اقتصادها بعد الحرب العالمية الثانية، بحيث أضحت نموذجا لا ينسى.
ويقول لي كوان يو إنه تعلم من اليابانيين أهمية زيادة الإنتاجية عبر التعاون بين الإدارة والعمال لتحقيق تنمية فعالة للموارد البشرية، وأن الإدارة اليابانية استطاعت أن تحقق معدلات النمو المرتفعة، لما يتميز به المديرون اليابانيون من صفات حسنة كالإخلاص والولاء التام لوظائفهم وتكريس حياتهم لها. ويتفرد اليابانيون أيضا بطريقتهم في دفع الشركات إلى ما يسمى "الفوائد الهدابية" للعمال على شكل مخصصات وتعويضات عن العمل في الساعات الإضافية "أوفر تايم"، وعلاوات ورعاية اجتماعية، وتتجاوز هذه جميعا قيمة الراتب الأساسي، ومن ثم يمكن للشركة التي تواجه تراجعا في نشاطها أن تخفض العلاوات والمخصصات لتوفير نسبة تراوح بين 40 و50 في المائة من فاتورة الأجور التي تدفعها، ثم تعيدها حين تعود لتحقيق الأرباح.
والحقيقة أن هذا الكتاب الذي بين أيدينا مليء بالكنوز في المجالات الاقتصادية والسياسية والإدارية، فمن يقرأه يستفيد من تجربة رجل استطاع أن يبني دولة وينقلها من مصاف الدول النامية إلى مصاف الدول المتقدمة. ويذكر في خاتمة مذكراته أنه قد تعود "البحث عن الحكومات التي اعترضتها المشكلة التي تعترضنا، وكيف تعاملت معها وتوصلت إلى حل لها، وما هي نسبة النجاح"، وكان يرسل فريقا من المسؤولين لزيارة الدول التي نجحت في القيام بمشاريع مماثلة ودراسة الطرائق التي استخدمتها. لقد فضلت على الدوام الاستفادة من تجارب وخبرات الدول التي سبقتنا في مختلف المجالات.
ويرى أن المستقبل حافل بالوعود المأمولة مثلما هو محفوف بالمخاطر المجهولة وعدم اليقين. المجتمع الصناعي يخلي مكانه للمجتمع القائم على المعرفة، وخط التقسيم الجديد للعالم الجديد سيكون بين الذين يملكون المعرفة وبين المحرومين منها، يجب أن نتعلم كيف نكون جزءا من العالم القائم على المعرفة.
وما أحوجنا الآن في عالمنا العربي والإسلامي إلى اتباع مثل هذا النهج الاقتصادي والمعرفي للتسلح لمواجهة المستقبل، ولا سيما أننا نملك إمكانيات ضخمة مادية وبشرية ومعنوية تتمثل في قيم ديننا الحنيف ومبادئه السامية التي تشكل أساسا راسخا وداعما متينا من دعائم نهضة بلادنا.