جزر القمر: الصفوف الأولى في المساجد ليست لجميع المصلين
تكشف مشاهد وصور المساجد في موروني العاصمة الرسمية لجزر القمر بما ستشاهده لاحقاً من مشاهد وبما ستسمعه من حكايات في داخل المساجد وخارجها المنتشرة في أرجاء هذه الجزيرة الخضراء: مسجد الجمعة الذي يتصدر مشهد المدينة، والمساجد الكبيرة والصغيرة المشيدة على أكتاف الصخور البركانية الداكنة والمنتشرة في كل ركن ثم عادات الناس في التعامل معها، والولع ببنائها وسر خلوها من المتسولين والصفوف الأمامية للمصلين.
العرب كانوا هنا
من بين الأبنية البيضاء وأشجار جوز الهند التي تغطي معظم مساحات الجزيرة يبرز مسجـد "الجمعة" الكبير بأروقته وأقواسه البديعة ومئذنته ذات المقطع المربع، وحينما ينطلق من أرجائه صوت الأذان يبدو هذا المشهد فريدا في هذه البقعة النائية من العالم التي تتسم بوداعة لا مثيل لها، إنها واحدة من المشاهد المهمة التي تختصر جانباً من تاريخ طويل بنى خلاله العرب والمسلمون القادمون من خلف البحار فصلاً من فصول تاريخ وحياة هذه المنطقة البعيدة.
على الرغم من تباين آراء من تحدثت معهم بخصوص تاريخ هذا المسجد الأقدم والأبرز في جزر القمر، والذي تبرزه كل وسائل الإعلام التي تزور الجزيرة، إلا أن الجميع يتفق على أقل تقدير مرور قرن ونيف على بنائه، في حين يتحدث البعض عن سبعة قرون منذ بنائه، أيا كانت صحة التقديرات، فإن كل ما في المسجد الجامع من تفاصيل يشي بقِدم تاريخ التواصل العربي والإسلامي، وهو ما يؤكده الطابع العربي في بنائه وبناء غيره من المساجد في أنحاء الأرخبيل الكبير، حيث تشير هذه الآثار إلى دخول العرب الذين حملتهم رياح الفتح الإسلامي والتجارة في القرن الثامن الميلادي. أولئك المهاجرون الذين تكدسوا في السفن الشراعية الصغيرة وقدموا من آفاق بعيدة وزرعوا الحياة والثقافة الإسلاميتين في وجدان الشعب القمري الذي تعود جذوره إلى موجات هجرة أتت من الساحل الشرقي للقارة الإفريقية.
سر الصفوف الأولى
لكن المشاهد التي تلي ذلك والتي تتشكل من خلال التجول في بعض المساجد الأخرى في أنحاء الجزيرة ستكشف لك الكثير من الأسرار والمعلومات المهمة عن ثقافة الناس وعاداتهم. في أحد المساجد المطلة على ساحل المحيط الهندي صادفت الشيخ اليمني أبو أيمن، والمبعوث من مؤسسة الإعمار الخيرية السعودية، وهو يلقي خطبته الأخيرة في هذه الجزر، حيث أمضى ثماني سنوات، وكان أبو أيمن الذي بدا واضحا من كلماته مدى حزنه على مفارقة الجزر وأهلها يلقي خطبته باللغة العربي، كما هو الحال في كل مساجد الجزيرة، على الرغم من عدم معرفة الكثيرين بها، حيث عرفت لاحقاً مدى تعلق الناس باللغة العربية التي هي عند القمريين ليست مجرد لغة فحسب، بل هو ارتباط عقدي، فصلاتهم وعباداتهم ودعاؤهم لا تجوز عندهم إلا بالعربية وإن لم يفهموا معناها، وللعلم فإن اللغة الفرنسية هي اللغة الأولى والمستخدمة في دواوين الحكومة، إضافة إلى اللغة القمرية القريبة من السواحيلية والمليئة بالمفردات العربية.
في الصفوف الأمامية في هذا المسجد، حيث يجلس عدد من الشخصيات الرسمية من الدولة، كنت أشاهد بين كل فينة وأخرى تبادلاً في الأماكن، لاحقا عرفت أن تلك الصفوف ليست لمن يحضر باكراً، بل للذين تزوجوا زواج العادة أو ما يسمى بالزواج الكبير، وتلك عادة لها قصة أخرى ليس مكانها هنا، لكنها باختصار تلخص معاناة أهل هذه الجزيرة، فهي إحدى أكبر مشاكلها والتي تكلفهم سنوات طويلة من حياتهم، لكنها في النهاية تؤهل صاحبها بالإضافة للصلاة في الصفوف الأمامية، مكانة اجتماعية مرموقة ومقعداً في مجلس شيوخ القرية.
رغم الفقر لا تسول
على الرغم من الفقر الذي يبدو واضحاً في الكثير من مناحي الحياة في هذه الجزيرة، إلا أن الزائر لها يلحظ مدى ولع أهلها ببناء المساجد، ففي منطقة صغيرة لا تتجاوز بضعة آلاف من الأمتار المربعة (ثلاثة آلاف متر أو أربعة) يمكنك مشاهدة أربعة إلى خمسة مساجد، وفي الوقت نفسه تقبع وبالقرب منها المساكن الفقيرة والتي يحرص سكانها على المسارعة في استخراج المبالغ الكبيرة لبنائها في أحسن حال.
بشكل عام يكشف هذا التقليد مدى ترابط المجتمع القمري، وهو ترابط حقيقي تجده ظاهراً في كل مكان، كما أنه ترابط مبني على دين واحد ومذهب واحد "مذهب الإمام الشافعي"، على الرغم من انتشار مراكز المذهب الشيعي أخيرا، والذي يبدو واضحاً في عدد من الشوارع والأماكن الرئيسية في الجزيرة.
هذا الترابط الذي تحدثنا عنه يبدو واضحاً بين الناس في الأحياء السكنية والقرى، حيث يحرص الجميع على تكوين اللجان المحلية التي تتولى مسؤولية إدارة الحي أو القرية، وذلك بجمع الأموال وتكوين مصادر لها، ومن ثم بناء المساجد وتعبيد الطرق ومساعدة المحتاجين، وهذا ما يفسر خلو الجزيرة من أي مظاهر للتسول.
ليست للصلاة فقط
المساجد في جزر القمر ليست للصلاة فحسب، بل هي مكان للدراسة وحفظ القرآن وتعلم الفقه، لقد تعود القمريون على إرسال أبنائهم إلى المساجد والخلاوي المنتشرة في كل مكان في طول الجزيرة وعرضها، حيث يتعلم الأولاد والبنات القرآن الكريم واللغة العربية وبعض مبادئ الحساب، وهذا ما يحدث أيضاً في الأكواخ المبنية من الصفيح بدلاً عن المساجد.
في هذه المساجد أو الخلاوي، التي تتسابق القرى والأحياء في بنائها وتتفاخر فيما بينها، يبدو مدى العناية والاهتمام بتعلم هذه العلوم، ومدى شغف الناس في التفقه في الدين وطلب العلم الشرعي وتعلم اللغة العربية.
يؤكد الشيخ عبد الله الجعيد ممثل رابطة العالم الإسلامي هناك الدور الكبير الذي تلعبه هذه الكتاتيب بصفتها المعهد التربويّ الأولي الذي يستقبل الطفل القمري منذ نعومة أظفاره، فالآباء كما يقول الجعيد يرسلون أبناءهم قبل السادس من أعمارهم، ذكورًا وإناثًا إلى الكتاتيب لحفظ القرآن الكريم وتعلم المبادئ الإسلامية وأبجديات اللغة العربية قبل أن يلحقوهم بالمدارس الفرنسية التي كانت مكروهة ومنبوذة من قِبَل بعض الأسر، وهذا في رأي البعض تسبب في انتشار الأمية في صفوف كبار السن الذين رفضوا دخول هذه المدارس لكونها فرنسية وغير إسلامية.