الثقة المتوافرة تحافظ على تحقيق الأرباح دون تكلفة مالية
فند جينس بيكرت الباحث الاجتماعي الاقتصادي في معهد ماكس بلانك القضايا التي تحوم حول أخلاقيات وتعامل تجار السيارات والسماسرة ومحاولة تحقيق الأرباح بأي وسيلة وما رأي علماء الاجتماع حول هذا النوع من النشاط الاقتصادي، وذلك في حوار تضمن العديد من النقاط المتعلقة بهذا الموضوع.
السيد بيكرت.. هل ترغب في شراء سيارة من عندنا؟
من الصعب علي القيام بذلك.. فأنا لا أعرف السيارة التي ستبيعونها لي كما لا أعرف عنكم شيئاً، ولا أعرف السيارة إلا ظاهرياً ولا أعلم ما تخفونه عني منها.
لكن ألا يمكنك الاعتماد علينا والثقة بنا؟
الانطباع الظاهري عنكم يشير إلى ذلك، ومظهركم يعطي نوعاً من الثقة، ولباسكم وحديثكم لا غبار عليه.
وهل يكفي المظهر الخارجي للناس الذين تتعامل معهم بصرف النظر عن حالة ونوعية السيارة التي تنوي شراءها؟
لا خيار أمامي إلا هذا.. وعدم معرفتي الكافية بالسيارة التي ستبيعونها لي لا يمكنني من الوصول للحقيقة والاختيار الصائب الموفق. ولا يمكننا من جهة أخرى أن نجعل من كل تاجر سيارات خبيرا بها وبمحركاتها وآلية سيرها ومواصفاتها كلية. لنبحث إذاً عن آلية أخرى مفيدة ألا وهي الضمانات التي يمكن تقديمها وصلاحية السيارة وعدم وجود أية أعطال بها ظاهرية أو مخفية.
كيف تتولد الثقة إذاً؟
على الطرف الأول تقديم ما لديه من إمكانات حول قدرة وفعالية السيارة وأدائها. والطرف الثاني يتصرف بناءً على ما سمع وما رأى ومدى اقتناعه بالعملية. المسألة بحاجة إلى نوع من الثقة وإلا فلا شراء ولا (يحزنون). كما أن على الطرف الآخر المجازفة قليلاً والقبول بما يعرض عليه لإنهاء الصفقة أو العكس.
لكن الثقة ليست جبرية إنها طوعية أولاً وأخيراً.
ما الذي يحصل في حال انعدام الثقة؟
عندها تنهار الأسواق.
هذه الخبرات يشارك بها أيضاً تجار المواد الغذائية الذين يبيعون الناس اللحم الفاسد المنتهي الصلاحية مع أن هذا يضر بمصلحتهم على المدى المتوسط على الأقل.
هذا صحيح .. لكن كما يبدو فقد وصل جشع باعة اللحوم إلى حد بعيد لم يعودوا يظنون معه أن ألاعيبهم ستنكشف ويرون أن الثقة يمكن نيلها جزافاً ودون تعامل مستقيم وثابت. إنها مجازفة بلا شك وخاصة إذا كان البائع حريصاً على المحافظة على علاقته مع الزبون. لكن, ويل لَه إن اكتشف الزبون خديعته والثقة لم تعد في محلها عندها يبدأ العد التنازلي للتعامل مع الباعة الجشعين وتبدأ سمعته بالانهيار ويكون قد فات الأوان لإصلاح أي شيء. الثقة أمر جيد لكن المحافظة عليها أمر ليس باليسير كما يقول المثل الشعبي كما طالب وزير الإمدادات أخيرا بموافاته بكامل المعلومات عن تجارة اللحوم أولاً بأول وكشفها للملأ.
المقولة الشعبية التي تشير إلى أن المحافظة على الثقة عملية مكلفة ليست صحيحة كلية وإنما تحقق الغرض المطلوب. بمقدورنا مراقبة صناعة اللحوم مع وجود ثغرات بسيطة يمكن تلافيها نظراً لأن المشتري لا يعرف شيئاً عن اللحم أو الشيء المعروض له. وهذا ينطبق على الكثير من الأقسام والقطاعات الاقتصادية.
ما القطاعات المقصودة؟
مثلاً على المريض أن يمنح الطبيب الثقة وإلا فلا يمكن معالجته بنجاح. مدير المدرسة عليه إشعار الأهالي أنه كفء وجدير بالثقة والاحترام.
لكن هل يمكن التحكم في كل هذا؟ ألا يؤدي منح الثقة بالكامل إلى نوع من خيبة الظن في بعض الأحيان؟
نحن لا نعرف عن جودة اللحم المعروض لنا من بائع معين ولا ندري عن أسعارها مقارنة بما عند غيره من نوعيات وأسعار.. ربما أنت محق في ذلك، لكننا في حياتنا المعيشية نجد فروقاً كثيرة بين سلعة وأخرى ولا يمكننا التحديد بدقة للسلعة الأفضل والأرخص سواء كان ذلك بالنسبة للحوم أو غيرها.
ولهذا السبب ما زالت الفرصة متاحة للجزارين الفاسدين في استمرار ممارستهم لأعمالهم والاستفادة منها وهذا لا يضر دوماً بمصلحة المشتري على الدوام نظراً لأن التعامل مع بائع واحد يظل أكثر راحة ويكفي المشتري من عناء المساومات والبحث والمقارنة.
نحن لا نزكي الناس جميعاً ولا نفرض رأينا على المشتري أو البائع، فإذا كان المشتري راضياً فلا ضير في ذلك.
متى يتخلى الناس عن الروتين المعتاد؟
هذا يحصل عندما لا يهتم بالوصول إلى الحد الأدنى المطلوب من الرضا. لكن السؤال المطروح يتمثل في البدائل المتاحة للشخص الذي يعيش في الريف مثلاً حيث لا يوجد إلا قصاب واحد في القرية فلا مناص من القبول بالأمر الواقع في حياتنا اليومية ونتيجة القيام بمهام كثيرة وعدم وجود الوقت والفرصة لاختيار الجزار المناسب لذا علينا الرضا والقناعة بما هو متاح. وكلما ازدادت المنافسة وقلت التكلفة تبرز الحاجة عند الناس إلى البحث عن الجديد والأمثل. المنافسة هي الحرية في اختيار البدائل المطروحة بشرط توافر الوضوح حول الجودة النوعية. وإذا تحولت من سلعة إلى أخرى فتكون جاهلاً بالمنتج الجديد لأول وهلة.
التكيف المرن للزبائن مع مؤثرات السوق يتطلب منهم الحصول أولاً على معلومات وافية عنه لكن الأسواق كثيراً ما يكتنفها الغموض. وللمزيد من الإيضاح يمكن الاسترشاد بسوق السيارات المستعملة مثلاً.
هل ترى أن قواعد المعلومات الخاصة بالأسواق أكثر شفافية ووضوحاً؟
هذه المسألة ليست بهذه السهولة. أحياناً تبيع المنتجات لأشخاص لا تراهم بعدها. وهذا من المجازفة حيث قد لا يصح ما هو صحيح دائماً ولهذا قام الباحث الاقتصادي إيبي بإعداد نظام تقييم للعلاقة بين الباعة والمشترين.
لماذا الثقة بالآخرين؟
هنالك جوانب مختلفة للإجابة على هذا السؤال من أهمها التوجهات الأخلاقية والمؤسسات الاجتماعية واستخدام مؤشرات الثقة والمعرفة الشخصية. المهم هنا هو أن الثقة لا تتماشى دوماً مع المنطق السليم.
عالم الاجتماع جورج سيميل يرى أن الثقة تمثل حالة متوسطة بين المعرفة واللا معرفة أو الوعي واللا وعي. ويتحدث الفيلسوف ويليام جيمس عن الرغبة أو الميل إلى التصديق لدى الناس وهذا ينطبق على الثقة ومنح الثقة للآخرين. أنت لا يمكنك تحديد التوجهات أو الميول لجعلك تثق بشخص دون آخر. هنالك عوامل كثيرة تؤثر فيك وتدفعك إلى منح الثقة لفرد دون غيره. والإنسان لا يمنح الثقة عادةً بطريقة عشوائية لكنه لا يملك كافة المعلومات حول الشخص الذي سيمنحه ثقته وهل هو أهل لها أم لا.
منح الثقة في محيط الأقارب يظل أكثر سهولة. ففي نطاق الأسرة يعرف كل فرد الآخر نتيجة الاحتكاك المتواصل بين أفراد الأسرة الواحدة ويؤدي ذلك إلى منح أي عضو فيها الثقة أو حجبها عنه من خلال تعاملهم وتصرفاتهم إضافة إلى استعمال وسائل الردع والعقاب. هنا يُحكَّم قانون عالم الاجتماع نيكولاوس لومان حول اللقاءات الشخصية الممكنة.
إذاً كيف تمنح الثقة عن بعد من خلال وسائل الاتصال كالإنترنت والهاتف وغيرها.
هذا شيء صحيح ويمثل أحد أهم منجزات العلم الحديث والذي مكن من ربط هذا المجتمع بوسائل الاتصال المختلفة. ومن جهة أخرى أعارض الرأي القائل بأن الثقة قد ضاعت أو انعدمت في هذا الزمن.
من خلال الثقة هل يزول الغموض؟
نعم.
لكن ذلك يمثل للاقتصاديين مزيداً من اللبس والشكوك نظراً لأن الاقتصاديين لا يتحدثون عن عناصر مثل الغموض أو الملابسات بل عن المجازفات والمخاطر المحتملة.
إذاً ما الفرق بين هذا وذاك؟
الغموض عبارة عن حالة مفتوحة أما المجازفات فيمكن التحكم بها والسيطرة عليها وأما الثقة والشكوك فهما أمران مختلفان ولا يمكن الاحتراز منهما.
التعامل دون معرفة كافية لا يناسب الاقتصاديين وذلك نظراً لأنهم يبنون آراءهم ومعطياتهم بطريقة منطقية مدروسة. وهكذا فإن من لا يعرف غير قادر على إيجاد الطريق الصحيح السليم . قد يقال إن في ذلك تشكيكاً في الوعي الاقتصادي. لكني بالفعل لا أقصد ذلك إن ما أعنيه هو أن لا نفهم القرارات الاقتصادية من دون معرفة إطاراتها الثقافية والحضارية.
ما تأثير الأخلاق على الأسواق المالية؟
عنصر التأثير النفسي فيه الكثير من الغموض. وقد سادت التصورات الأخلاقية في وقت مضى لذا فإن التجرد الواعي من الأخلاق والمبادئ السامية سيحرر الاقتصاد.
أليست الثقة مرتبطة بالأخلاق والمبادئ السامية؟ أليست الاستقامة في المعاملات هي عماد الأسواق المالية قديماً وحديثاً؟
هنالك غموض حول تأثير المعاملات التجارية والأخلاقية وتأثر بعضهما بالآخر. لنفكر مثلاً في التعاونيات التضامنية والتكتلات الاقتصادية الجغرافية (دول جنوب شرق آسيا) (الدول الإفريقية). ومن أمثلة ذلك الهاييتيين في نيويورك والأتراك في ألمانيا: حيث يسود في كل مجموعة سلوكيات معينة يجب التقيد بها واتباعها. كما يسود في نطاق النقابات العمالية نوع من المبادئ والسلوكيات ووجوب تضامن جميع الأعضاء نحو هدف مشترك.
ما رأيك في الأخلاقيات العمالية التي تعارض مثلاً امتهان المرأة أو عمل الأطفال في المصانع أو التفرقة العنصرية؟
أنا أرى أن كل ذلك يمثل أثراً من آثار الأخلاق البالية التي سادت المجتمعات السابقة.
يا سيد بيكرت أنتم بصفتكم عالماً اجتماعياً اقتصادياً ماذا يعني هذا المصطلح؟
هذا يعني فهم الظاهرة الاقتصادية من خلال الأدوات والوسائل الاجتماعية. والنظرية الاقتصادية تستند إلى نموذج التعاملات المنطقية المدروسة. وحسب رأيي فإن هذا لا يكفي وحده للتعليل التجريبي للتعاملات الاقتصادية. عالم الاقتصاد الاجتماعي يبين لنا كيفية تصرفات الناس في الأسواق الاقتصادية. وحتى الآن يسود في جو المنافسة الظاهرة والعبارات الاقتصادية. أما النواحي الاجتماعية التي أشرت إليها فلا مكان هنا. أنا لا أماري في ذلك. وهذا يشير أيضاً إلى أن الكثير من علماء الاجتماع في فترة ما بعد الحرب تأثروا كثيراً بالماركسية المتأخرة ولم يروا الطريق المسدود الماثل أمامهم. لكن أحداً لم يكن يجرؤ على مواجهة الاقتصاديين بشكل مباشر. لكن كل ذلك تغير الآن وأصبح النموذج الاجتماعي الغير مرئي يسود في نطاق الاقتصاد. الممثلون الذين يتعاملون بطريقة لا مركزية يصلون إلى التوازن الأقصى من خلال الأفضليات المتاحة. لكن هذا النوع من الاقتصاد هو الذي نسير فيه.
وما النموذج المناقض حسب رأيك؟
الأسواق لا يمكن تحليلها من خلال الأفراد والمساهمين في الأسواق بل من خلال إدراج السلوك والتعامل الاقتصادي في الإطار الاجتماعي. ويمكن إدراج النظرية الاقتصادية التجريبية في نطاق علم الاجتماع التاريخي ليس إلا.
وإليكم هذا المثال الرائع:
علم الاجتماع يمثل العلم الأساسي الضروري لفهم الظواهر الاقتصادية ومن دونه لا يمكن فهم الاقتصاد بطريقة سليمة وصحيحة.