أفلام المعنى في زمن لا يكتفي بذلك .. "الآباء الصغار"
نحاول دوماً وتبقى محاولاته هي الأفضل والأكثر ريادة وقبولاً مهماً تنوعت ردود الفعل حول ذلك، فالجرأة المعتادة على الدخول في القيم وغير المرغوب في معطيات السوق الإنتاجية تشكل الصفة الوحيدة التي يتسم بها تاريخ الفنان السوري القدير دريد لحام. لا يحق لأحد تقييم مدى نجاح هذه التجربة أو فشلها في تلك الحقبة أو غيرها من مسيرة الفنان لحام، نظراً للتحدي الكبير الذي أقدم عليه في أكثر تجاربه في الميدان التمثيلي ليوجد حقبة سورية في هذا المجال قد تتسم بداياتها ورقيها باسمه.
دريد لحام في فيلمه الجديد الذي كتبه يبدأ المشاهد الأولى على قبر زوجته التي أدت دورها سلمى المصري ومعه أطفاله الأربعة، وقيد دريد نفسه من البداية أن عليه أن يمنح كل طفل مساحة من الحوار وهو يضع وردة على قبر أمه.
ونكتشف أن الزوجة الراحلة كانت وراء التحاق دريد لحام بكلية الحقوق، حيث إنه يعمل في الشركة السورية مساعدا، "صول"، وعندما يحصل على ليسانس حقوق ستتم ترقيته إلى رتبة ضابط، إضافة إلى حصوله على زيادة في مرتبه تعينه على الإنفاق على أطفاله الأربعة.
الإحساس الهندسي في السيناريو يظل هو المحرك الأساسي عند دريد, كل طفل عليه أن يقول كلمة، وأن تنتهي بأصغر أطفاله التي عليها أن تنطق بأعلى ـ أيفه ـ ضحك لأنها في العادة هي التي تنهي الموقف الدرامي بحكم السن.
وبمجرد أن يفتح الباب دراميا إلى حنان ترك التي تؤدي دور خبيرة في اليونيسكو تأتي إلى سورية في مهمة علمية بمجرد أن يبدأ الخيط الدرامي يتطور في هذا الاتجاه نرى قيدا آخر في الحوار، وهو اللعب على التناقض بين اللهجتين المصرية والسورية ولا بأس من ذلك في موقف أو اثنين ولكن لا يمكن أن يظل هذا هو الهدف الأسمى وربما أيضا الوحيد إلى درجة أن تقدم له أغنية في منتصف الفيلم تتغنى بالكلمة السورية ومرادفها بالمصرية أو العكس.
إن عبد الودود وهو اسم الشخصية التي يقدمها في "الآباء الصغار" وهو الاسم الذي احتفظ به دريد في أفلامه الثلاثة التي أخرجها "الحدود" ثم "كفرون" ليواصل نهجه في هذا المجال لأنه لعب شخصية "غوار" من قبل في أكثر من فيلم سوري خلال السبعينيات.
كان غوار يقدم شخصيات ضاحكة أما "ودود" فإنه أكثر دفئا في فيلم "الآباء الصغار"، يصبح تبادل المسؤولية بين الكبار والصغار هو محور الفيلم الأب دائما هو المسؤول عن الصغار ولكن الحب الكامن في قلب الصغار لأبيهم يجعلهم أيضا مسؤولين عن الأب.
هو يعمل ليلا على تاكسي ليستطيع دفع نفقات الأسرة في التعليم وباقي أمور المعيشة، وهم يعملون بعد انتهاء دراستهم لكي يتيحوا لأبيهم استكمال دراسته وتحقيق أمنية الأم الراحلة وأيضا تحقيق وضع أدبي ومادي أفضل للأب.
حنان ترك في الأحداث ودخولها بيت دريد لحام حيث تستأجر غرفة في الشقة للإسهام في نفقات الأسرة يحيل الأمر إلى نوع من الصراع الخفي بينها وبين الأبناء على الأب. حتى يتأكدوا في النهاية من أنها لا تريد أن تخطف أبيهم منهم.. وتنتهي الأحداث بحصول دريد على الشهادة ونشعر أن كل أفراد العائلة ومعهم حنان ترك وقد فاضت مشاعرهم حبا وتضحية.
المعنى العميق الذي أراده دريد كاتب ومخرج الفيلم هو أن المسؤولية ينبغي أن تقودنا إلى التضحية، وأنك عندما تحب تمنح الآخر الحب ولا تنتظر. هذا عندما يكتشف دريد أن أبناءه يعملون لتوفير نفقات دراسته يقول لهم: لا أدري هل أحضنكم على كل هذا الحب أم أعاقبكم لأنكم خالفتم أوامري؟ ويقرر في النهاية أن يحضنهم.
في الفيلم لحظات من الشجن النبيل وأيضا مواقف على مستوى حرفة الكتابة السينمائية تحمل ولا شك خفة ظل. مثل مشهد صلاة الجماعة التي يدعو فيها الأبناء أن يوفق الله أباهم وكذلك مشهد تنصتهم عليه وهو يحاور حنان ترك. كما أن دريد أجاد قيادة الأطفال ومنحهم حالة من التلقائية في الأداء ولو لم يستطع المخرج أن يهيأ للأطفال هذا الإحساس بتجاهل الكاميرا والإضاءة والميزانسين ـ الحركة أمام الكاميرا ـ لو لم يستطع "دريد" أن يحقق كل ذلك لفقد الفيلم الكثير من الجاذبية لأن جاذبيته وسره يكمنان في الحفاظ على تلقائية الأطفال وعدم تصنعهم التمثيل!! كذلك قدمت حنان ترك وسلمى المصري دوريهما بنفس درجة التلقائية.
"الآباء الصغار" فيلم مغامر على مستوى الفكرة والإنتاج والأبطال وسيبقى دريد لحام حاضراً دائما ليكون المغامر الأوحد من أبناء جيله والأجيال المقبلة.