الإسراف مرض خطير يهدد حياة الناس والوسطية مطلب ملح
تكتظ بعض المجتمعات المسلمة بفئة من الناس تهتم بالإسراف في حياتها، وفئة أخرى تجعل من البخل والشح نمطاً لحياتها، وكلا الفئتين جانبهمت الصواب. ولم يصل أي منهما إلى جانب الصواب وهو الوسطية "وكذلك جعلناكم أمة وسطا"، فهذه الأمة وسط في كل أمورها وهذا ما حث عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته، ودون شك فإن مجتمعنا السعودي هو أحد هذه المجتمعات المتهمة بسلوكها مسلك الإسراف من خلال ممارسة بعض أفراده لذلك، ولتبيان خطورة هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة حاولنا مناقشتها من الناحية الشرعية وتم وضع التصور الصحيح لها والضوابط لذلك.
وشارك في وضعها كل من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ المفتي العام للسعودية والشيخ الدكتور عبد الله المطلق عضو هيئة كبار العلماء والشيخ الدكتور إبراهيم صالح الخضيري القاضي بالمحكمة العامة في مدينة الرياض.
من غير إسراف
جاء الحديث في البداية عن هذه الظاهرة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ المفتي العام للمملكة العربية السعودية حيث طالب المسلمين في كل مكان باجتناب الإسراف خصوصاً في الطعام والشراب.
وقال إن الله جل وعلا أباح الأكل والشرب والتمتع بالطيبات ولكن أرشدنا سبحانه وتعالى للطريق السليم الواجب أن نسلكه بقوله تعالى: "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين".
وأوضح سماحته أنه يجب على المسلم أن يلزم الطريق المستقيم وأن يأتي بالطيبات من غير إسراف أو مجاوزة للحد، أما أن نتخذ ذلك غاية ونحرص عليها ولاسيما أن ذلك يكثر في شهر رمضان مثلاً الذي تجعل فيه الموائد بشكل معين ويكون لها ميزة عنها في سواه من الأشهر، وهذا مخالف للسنة وينبغي على المسلم أن يتمتع بالطيبات على أن يبتعد عن الإسراف ويستفيد من التوجيه الرباني بالابتعاد عنه وتجنبه.
ثروة عظيمة
ويشير فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد المطلق عضو هيئة كبار العلماء في السعودية إلى أن الإسراف خلق ذميم وهو ما تجاوز به الإنسان الحد المعقول في أكله وشربه أو لبسه أو إنفاقه أو مركوبه وهو درجة تختلف فيها أنظار الناس ويجب الاحتكام فيها إلى الشرع، فالبخيل يمكن أن يصف المقتصد بأنه مسرف والمسرف ربما يرى نفسه بخيلاً، ولهذا فإن المعول عليه في وصف العمل بأنه إسراف هو نظير المحتكمين للشرع الذين جعل الله لهم معرفة بالواقع وأحكام الشريعة. والإسراف محرم في الشريعة الإسلامية ويكفيه ذماً أن الله لا يحب المسرفين كما قال الله: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين"، والمسرفون مبذرون ينفقون الأموال في غير مواضعها، قال تعالى: "وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا".
والمسرفون يهدرون ثروة عظيمة في ضياع لا يعود على الأمة بمنفعة بل يجر عليها دماراً وخرابا. فإن كثيراً من الناس يقتدون بهم وينافسونهم في صنيعهم معتقدين أن ذلك نوع من الكرم ونوع من التوسعة على الأهل. فيتكلفون ما لا يستطيعون وينتهي بهم الأمر إلى مديونية ترهق كواهلهم وربما تنحدر بهم إلى غياهب السجون. وفي نظرة متأنية يمكن أن نضرب مثلاً بسيطاً ينبغي تأمله والتفكير في مثله.
فمثلاً لو فرضنا أن مليون أسرة ابتليت بالإسراف في شهر رمضان مثلا فوضعت فيه على المائدة أكثر ما تحتاجه بـ 20 في المائة وهذا حد متوسط ثم قدرنا أن نفقة هذه الأسرة مثلاً في هذا الشهر ألفا ريال فإن نسبة 20 في المائة من مجموع النفقة تعادل أربعمائة ريال، فإذا ضربنا ذلك في عدد الأسر وجدنا أن 400 مليون ريال تهدر مثلاً في شهر واحد كشهر رمضان المبارك وكلها في ما لا يحبه الله ولا يرضاه من الإسراف الممقوت الذي ينتهي إلى مزابل تؤذي بريحها ونتنها من يجاورها وتعكر عليهم صفو الهواء وتجلب لهم كثيراً من الأمراض.
صور متعددة
ويتناول الشيخ الدكتور إبراهيم الخضيري القاضي في المحكمة العامة في الرياض النظرة الشرعية للإسراف فيقول إنها محددة بمنهج رباني حكيم تجلى في قوله تبارك وتعالى: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" ، وفي قوله تعالى: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا"، وقال سبحانه وتعالى: "ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء".
فيستخلص من هذا أن الإسراف بين طرفي نقيض إسراف وبذخ وهو محرم وتقتير وشح وهو إسراف في القبض وهو محرم أيضاً.
وهذا الدين وسط وخير الأمور أوسطها فعلى المؤمن والمؤمنة أن يكونا بعيدين كل البعد عن الإسراف وعن التقتير أيضاً.
والوسطية دائماً مطلوبة في حياتنا لأننا أمة وسطية. والنهي عن الإسراف جاء في كل شيء حتى في العبادة يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يمل حتى تملوا فإذا نعس أحدكم في الصلاة أي صلاة الليل فلينم، ومقتضاه أنه لا يرهق نفسه في العبادة مصداقاً لقصة أبي ذر وسلمان رضي الله عنهما التي قال فيها سلمان: "إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولزوجك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. فقال، صلى الله عليه وسلم صدق سلمان" [متفق عليه].
وأكد الخضيري أن للإسراف آثاراً طبية وقبلها آثاراً دينية واقتصادية واجتماعية، أما آثاره الدينية فمعصية الله سبحانه وتعالى بارتكاب الإسراف الذي نهى عنه جل وعلا، وأما الآثار الصحية فإن من يسرف في الأكل والشرب كما عمت البلوى في أيامنا هذه حيث إن المسرف والمسرفة في الطعام مهددان بأمراض ربما تكون خطيرة منها السمنة وأمور لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وأما الآثار الاقتصادية فهي في عدة صور:
الصورة الأولى: إهدار أموال كثيرة وذلك بإتلاف أطعمة طيبة وحرمانها مستحقيها.
والصورة الثانية: إغاظة الفقراء وذلك أن الغني يأكل ما لذ وطاب بإسراف وينظر لنفسه على أنه في مكانة عالية بعيداً عن رقابة النفس، والله سبحانه وتعالى حسيب على عباده وكفى بالله حسيبا، ومعلوم أن الفقير قد يغتاظ عندما يجد من ذلك الغني الجفوة وعدم الاهتمام به ويراه يتلذذ بكل الأصناف ويهمله ثم يقوم الغني برمي كثير من فضلات الطعام في أماكن النفايات مهدراً ما يمكن صرفه للجمعيات الخيرية لو كان عنده شعور بحب الفقراء والبعد عن الإسراف.
والصورة الثالثة: تتجلى أيضاً في شكوى كلا الفريقين من البطنة فالمسرف يتلوى ألماً وانتفاخاً، والفقير يتلوى ألماً ويتضور جوعاً، ولذلك فإن البعد عن الإسراف يكون بمعالجة الظاهرة من أصلها وينبغي أن يفرق الناس بين الإسراف والكرم، فالكرم محمود وكان أكرم الكرماء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح: "أنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة وكان أجود ما يكون في رمضان"، فإنفاق المال الكثير ووضع الأطعمة الفاخرة المتنوعة بكثرة وتوزيعها على الفقراء والمساكين في غاية الكرم وليس من الإسراف في شيء.
وقمة الإسراف أن تدعو رجالاً قلة لتصنع لهم طعاماً يكفي لأضعافهم بالمئات ولذلك فإن إعداد الموائد بدقة وعناية وبموائد فاخرة وإدخالها للفقراء والمساكين هو من الأعمال الصالحة إذا كانت بقدر حاجته لأن ذلك يغنيهم مسألة الناس ويكفيهم ما يحتاجونه.