"محفظة صانع السوق" وانهيار مايو 2004
تعرضت سوق الأسهم السعودية خلال تاريخها الحديث لهزات عنيفة كادت تقضي عليها في المهد، لولا عناية الله سبحانه وتعالى ثم حكمة المسؤولين الذين لم يألوا جهدا في الحفاظ على مقدرات الوطن وقطاعاته الاقتصادية المختلفة. التشاؤم عادة ما يكون السمة المسيطرة على المتداولين خلال جميع الأزمات الماضية، إلا أن السوق ما تلبث أن تعود بعد ذلك إلى وضعها الطبيعي محققة نموا كبيرا عجز عن توقعه غالبية المتفائلين. وبطبيعة الحال فإن الأزمات تساعد كثيرا في طرح وبلورة الأفكار التي يعتقد أنها تسهم في التقليل من نسبة تكرار حدوث الأزمات المالية.
بعد أزمة مايو 2004 كتبت في " الاقتصادية " كثيرا عن محفظة صانع السوق ودورها المأمول في المحافظة على استقرار سوق الأسهم وتجنيبها الهزات التي يصعب الشفاء منها بسهولة. ثم أعدت الكرة بعد كل هزة تعرضت لها سوق الأسهم خلال ذلك العام. وفي مقالة مطولة نشرت في "الاقتصادية" بتاريخ 5/12/2004 تحت عنوان "هل بدأت تصفية الحسابات؟" جاء فيها ما نصه " يعتقد أن أفضل قرار يجب على هيئة السوق أن تتخذه للحفاظ على سوق الأسهم السعودية هو التسريع في تكوين محفظة المتعهد (صانع السوق) وهي محفظة ضخمة تسهم في تكوينها أطراف فاعلة مثل معاشات التقاعد والتأمينات الاجتماعية وصندوق الاستثمارات العامة والبنوك وكبار المستثمرين. يناط بهذه المحفظة مسؤولية الحفاظ على توازن السوق وحمايتها من الهزات العنيفة التي قد تتعرض لها، حيث يبدأ المتعهد بامتصاص الكميات الكبيرة من الأسهم التي يتم طرحها كي لا تقود السوق إلى انهيار. كما أنه في الوقت نفسه يتعهد بتوفير الأسهم المطلوبة إذا زاد الطلب على العرض". لا أعتقد أن الجهات المسؤولة كانت غافلة عن فكرة محفظة صانع السوق المطبقة في معظم الأسواق العالمية منذ عقود طويلة، أو أنهم كانوا في حاجة لمن يذكرهم بها، خصوصا أن مادة مبادئ الاستثمار التي تدرس في المعهد المصرفي لمؤسسة النقد العربي السعودي تحتوي على معلومات مفصلة عن " صانع السوق " وأهميته في حفظ توازن سوق الأسهم. الأمر كان ذا علاقة مباشرة بالقناعات أكثر من علاقته بالمعرفة والاطلاع، أو لنقل بأسلوب الإدارة المتبع المبني على إقصاء بعض آليات السوق المهمة والاستعاضة عنها بنظام المراقبة والغرامات الضخمة. يمكن للمراقبة الصارمة أن تكتشف المخالفات بعد حدوثها، وأن تجرم المخالفين وتفرض عليهم الغرامات الضخمة، لكن ذلك لن يعوض المتداولين عن خسائرهم المالية التي تكبدوها بسبب تصرفات المخالفين، كما أنها لن تعيد للسوق استقرارها، وهو ما حدث بالفعل خلال العامين الماضيين.
لم يستطع النظام الرقابي الصارم الحؤول دون انهيار السوق وتحميل صغار المستثمرين الخسائر الفادحة، فخطط كبار المضاربين كانت أكبر من أن تتم السيطرة عليها بالقوانين والأنظمة، وهذا هو الواقع المحزن الذي يجب أن نقر به. العملية أصبحت نوعا من التحدي وتصفية الحسابات بين الأجهزة الرقابية وبين بعض كبار المضاربين النافذين. أصبح صغار المستثمرين الضحية التي لم تنتفع من حماية المراقبين ولم تسلم من انتقام المضاربين.
كانت الوسيلة الأكثر فاعلية لوقف تهور كبار المضاربين وتحييدهم تتمثل في إنشاء محفظة صانع السوق التي يمكن من خلالها الموازنة بين عمليات العرض والطلب من أجل مصلحة السوق والمتداولين. إنشاء محفظة السوق لا ينفي أهمية الوسائل الرقابية الأخرى بل هي الداعم الحقيقي لإنجاح تلك القوانين والأنظمة التي يسعى بعض كبار المضاربين إلى تحطيمها من خلال النظام نفسه. التجاهل المتعمد لمثل تلك الأفكار هو الذي أدى إلى خسارة السوق أكثر من 800 مليار ريال في أسابيع قليلة. هل كنا في حاجة إلى دفع هذه الفاتورة الضخمة قبل أن نقتنع بجدوى إنشاء "صندوق صانع السوق" المعمول به في غالبية الأسواق العالمية؟ لن نبكي على اللبن المسكوب، ولكن نحمد الله الذي وفق مجلس الشورى الموقر في إصدار توصياته بإنشاء " محفظة صانع السوق " التي نعتقد أنها أصبحت قرارا نافذا أكثر من كونها توصية عطفا على القرارات الإصلاحية التي أصدرها الملك عبد الله في الأيام الماضية.
أخيرا يمكن القول إن تقييم الأداء والمحاسبة يجب ألا يطبقا فقط على القرارات المتخذة، بل يجب أن يتعدياها إلى مرحلة المساءلة عن عدم اتخاذ بعض القرارات المهمة التي كان من الممكن لها أن تجنب الاقتصاد، المجتمع، السوق، والمتداولين الخسائر الضخمة التي ستبقى آثارها لسنوات مقبلة.