سوق الأسهم و الاكتتاب بين الإباحة والتحريم
عاد الجدل من جديد حول مشروعية الاكتتاب في الشركات المساهمة التي تطرح بين الحين والآخر، ومشروعية التداول في الأسهم. أصبح المجتمع بأسره يتسوق الفتوى بين أهل العلم ولا يطلبها، فطالب الفتوى يلتزم بأخلاقياتها، ومن أخلاقياتها أن يثق الإنسان بمن يستفتيه، يثق بعلمه وورعه ومقدرته على استنباط الأحكام، وألا يتجاوزه إلى سواه بعد سماع فتواه، وأن يحرص كل الحرص على الإتيان بها وتطبيقها كما سمعها إبراء للذمة. فطالب الفتوى يفترض أن يكون غير عالم بمسألته، ولو علم لأفتى نفسه دون الحاجة إلى مساءلة العلماء، ومن هذا الباب لا يحق للمستفتي نفسه أن يقيم الفتوى أو أن يحدد مدى مطابقتها لتوجهاته الخاصة أو رغباته، فإن تطابقت مع رغباته وتوجهاته قبل بها وإلا ذهب إلى عالم آخر يستفتيه عله يجد عنده ما يتمنى لا ما يستوجب. ومن أخلاق الفتوى بين العلماء ألا يتقارع العلماء فيما بينهم، خصوصا في المسائل العامة التي تمس غالبية الناس، وألا يختلفوا خلافا ظاهرا إلا بالحق وبعد الرجوع إلى بعضهم البعض للاستيضاح والتحقق من أصل المسألة وحيثيات الفتوى فلعل الله سبحانه وتعالى أجرى على أحدهم علما لم يهبه للآخر، وبذلك يخلص العلماء إلى فتوى موحدة إن وجدوا إلى ذلك سبيلا، فإن لم يتفقوا، اعتمادا على الدليل واستنباط الأحكام، فيبين كل واحد منهم مسألته بوضوح دون المساس بالآخر، وليس في ذلك حرج ولا قلة علم بل هي الرحمة المباركة التي أنزلها الله على خلقه، فجعل في اختلاف العلماء المبني على الدليل والفهم لواقع المسألة رحمة للخلق ورحابة في الفقه قل أن تجدها في الأديان الأخرى. فالعلماء مختلفون فيما بينهم من حيث التخصص والثقافة والاطلاع وسعة الأفق، ومتفقون في حفظهم لكتاب الله وسنة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم، أي أنهم متفقون من حيث مصادر التشريع. وعلى الرغم من ثبات مصادر التشريع وعدم تغيرها في اللفظ أو المعنى، إلا ما اختلف في تفسيره بين مفسري السلف ـ رضوان الله عليهم، إلا أنها قد يتغير تطبيقها بتغير الحالة وإن كانت أمرا صريحا أو نهيا واضحا.
هناك فتاوى شرعية ثابتة لا يمكن التنازع حولها أبدا حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهي من الثوابت. وهناك قضايا فقهية أخرى قد يكون للواقع علاقة مباشرة في تغيرها أو تطورها تسهيلا للمسلمين واعتمادا على العلة لا اللفظ. وفي الحديث الشريف عن بريدة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة ليتسع ذوو الطول على من لا طول له فكلوا ما بدا لكم وأطعموا وادخروا" رواه أحمد ومسلم والترمذي. وعن أبي سعيد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم قال: "يا أهل المدينة لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام" فشكوا إلى رسول الله أن لهم عيالا وحشما وخدما فقال "كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا" رواه مسلم. ونستنبط من هذين الحديثين أن النهي بني على علة ثم نسخ لانتفاء السبب ولتحقيق المصلحة، وهو دليل واضح على أن الفتوى قد تتغير بتغير الأحداث والوقائع. فواقع الحال كان سببا لإصدار فتوى النهي، فلما انتفت العلة (الحاجة في ذلك الوقت) عدلت الفتوى لتتناسب مع الواقع الحي. هل تعديل الفتوى أو تطورها ينطبق على كل الأمور؟ قطعا لا يمكن أن يقول عاقل بذلك، " فالحلال بين والحرام بين" وما ترك الله شيئا من أمور الدين إلا بينها لعباده ولم يقبض الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم, إلا بعد أن أدى الأمانة وبلغ الرسالة وتركنا على المحجة البيضاء. قال تعالى "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا".
ولكن هناك أمور تشابكت أطرافها، واستحدثت في زماننا هذا وربما استحدث غيرها مستقبلا تحتاج إلى وقفة فقهية حازمة مبنية على تبحر في العلوم الشرعية واطلاع تام على العلوم الدنيوية وخبرة واسعة في الحياة واستشراف للمستقبل. حاجة الناس الملحة تفرض على أهل العلم عدم التسرع في إصدار الفتوى، خصوصا في القضايا الخلافية ومن ضمنها الأحكام المتعلقة بالاكتتاب وتداول الأسهم، قبل أن يتم تناول محيطها الاجتماعي والإنساني العام. وأخص بذلك ما له علاقة بالمعاملات التي أصبحت ذات أهمية بالغة لدى المسلمين.
يلاحظ في الآونة الأخيرة طغيان القضايا الخلافية على القضايا القطعية ذات العلاقة بالعقيدة وفقه العبادات، والعياذ بالله، وهو أمر لا يمكن التهاون به. انشغل العامة كثيرا في أمور خلافية، لا يمكن لنا أن نقلل من أهميتها، وذلك لارتباطها المباشر بأمورهم الحياتية والسعي في طلب الرزق وتوفير لقمة العيش لأسرهم، لكنها تترك تساؤلا كبيرا حول اهتمام المسلمين بالقضايا الشرعية القطعية العقدية والأخلاقية وتطبيقها التطبيق الأمثل قبل الانتقال منها إلى القضايا الخلافية.
مثل هذا الطرح لا يعطينا الحق في البحث في نوايا المسلمين ومدى التزامهم بشؤونهم الدينية بقدر ما يساعدنا على التعمق في حالة المواطنين المعيشية والاجتماعية التي فرضت الاهتمام بمثل هذه القضايا. مثل هذا الطرح يقودنا إلى التساؤل عن مدى حاجة المسلمين إلى طرق أبواب الأسهم والدخول في المساهمات التجارية؟ وتجاوز بعض الفتاوى التحريمية التي يطلقها بعض العلماء، كما حدث في شركة ينساب حيث صوت ما يقارب من سبعة ملايين مكتتب لفتوى التحليل التي أصدرها سماحة الشيخ الدكتور عبد الله المطلق، رافضين فتاوى التحريم الأخرى التي انتشرت انتشارا كبيرا بين المواطنين. الواضح أن نسبة لا يستهان بها من مجمل سكان المملكة يبحثون عن مصدر رزق إضافي لتحسين وضعهم المعيشي. كثير من المواطنين لا يمتلكون بيوتا خاصة بهم، وآخرون يعيشون على الكفاف، ومثلهم يعلم الله بأحوالهم ومستوى معيشتهم التي رأيناها بأعيننا من خلال شاشات التلفزيون، أي أنهم يعانون كثيرا بسبب ضيق أحوالهم، والدولة رعاها الله، هيأت لهم سبل تحسين وضعهم المالي الذي لا يحتاج إلى كد وجهد أو خبرة وتخصص من خلال الشركات المساهمة. هؤلاء المواطنون يحاولون جاهدين ألا يدخلوا في المساهمات المحرمة، لكنهم يضطرون أحيانا بسبب ضيق ما في اليد من جهة، وبسبب وجود فتوى مضادة تبيح الاكتتاب للمواطنين صدرت من رجال علم ثقات، نحسبهم كذلك والله حسيبهم. يقول الخليفة الراشد "لو كان الفقر رجلا لقتلته" والفقر لا يعلمه إلا من عاش في كنف الضيق والبؤس والحاجة، أما الأغنياء وميسورو الحال فهم أبعد الناس عن استشعار آلامه وأحزانه. بعض الفقراء يأخذون أحيانا بالفتوى الأشد، مهما تكن هناك من فتاوى أخرى، إبراء للذمة ومن باب الورع وهم يحرمون أنفسهم بسبب فتوى التحريم. هل نطلب من العلماء إباحة المحرم والعياذ بالله من أجل الفقراء؟ كلا لا أحد يقول بذلك، ولكن مسألة الاكتتاب في أسهم بعض أنواع الشركات مسألة خلافية بين العلماء، ولا يمكن القطع فيها إلا في حالة أن يكون أصل عمل الشركة من المحرمات، عندها لا أحد من العلماء يجرأ أن يقول بغير التحريم. فيما عدا ذلك من أمور فهي تدخل في القضايا الخلافية بين العلماء. بعض العلماء استفسر عن مصدر تمويل مساهمة سابك نفسها في شركة ينساب ثم قطع بالتحريم لذلك السبب. فهل يفترض على سبيل المثال يسأل الموظف الحكومي وزارة المالية عن مصدر راتبه الشهري إن كان من المبيعات المباشرة للنفط أم أنه تم تمويله من سندات الدين العام قبل أن يقبضه ويستحله؟. وهل يرفضه في حالة الإجابة الثانية؟. أليس هناك تشابه في المسألتين؟!!
ما نرجوه من علمائنا الأجلاء أن ينظروا في إمكانية الربط بين الواقع المعاصر وبين الفتوى في المسألة الخلافية فإن كان تحريم المسألة من باب الورع لا من باب القطع فمن الأفضل النظر بعين الرحمة وحاجة الناس كمرجح لفتاوى الإباحة الصادرة من العلماء الثقات، ولا يتم إقحام فتاوى تحريمية أخرى تدخل المسلمين في جدل لا يمكن الفكاك منه. أحيانا قد يقحم الورع صاحبه في تحريم المباح؟ فيقودنا إلى قاعدة فقهيه صارمة تبنى على أن "من حرم حلالا كمن أحل حراما".
الشرح في فتاوى الأسهم والاكتتابات يطول، وهي وإن أدخلت المجتمع في دوامة يصعب الفكاك منها بين التحريم والإباحة، فإنها أدخلت العلماء أنفسهم في جدل لم يكن معروفا من قبل وصل إلى حد التصريحات غير المقبولة تجاه علمائنا الأجلاء الذين لا نتردد في أن نطلق عليهم "العلماء الربانيون" وهي سابقة تسجل لأول مرة في مجتمعنا السعودي ضد المرجعية الدينية، ما يفرض على الجميع التكاتف من أجل وضع حد لهذا التوسع في الفتوى والجرأة على علمائنا الأجلاء. كنت قد أشرت في مقالة سابقة إلى ضرورة توحيد مصادر الفتوى الخاصة بالمعاملات المالية المصرفية ومن ضمنها الأسهم وفتاوى الاكتتاب، وتخصيص لجنة دائمة لها تابعة لسماحة المفتي، بحيث تشكل المرجعية الوحيدة لإصدار فتاوى الأسهم والاكتتابات والمعاملات المالية، وأضيف إلى ذلك إلزام جميع الشركات المساهمة تحت التأسيس أن تحصل على فتوى تحدد مدى تحقيق الشركة لمتطلبات الشريعة الإسلامية. هذا الشرط سيعيد الأمور إلى نصابها وسيريح المسلمين كثيرا، وسيدفع جميع الشركات نحو أسلمة مواردها واستثماراتها من أجل النجاح خصوصا أن أدوات المصرفية الإسلامية أصبحت متوفرة و متكاملة في السوق السعودية بفضل من الله سبحانه و تعالى ثم بدعم الدولة رعاها الله ودعم علماؤنا الأجلاء. ننتظر القرار الحكيم من أجل فقراء المسلمين لا أغنيائهم.