هيئة السوق المالية بين مدرب الفريق وحكم الساحة
<a href="mailto:[email protected]">ialnaseri@yahoo.com</a>
بعد انهيار أسعار الأسهم انطلقت حملة ضارية في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة ضد هيئة السوق المالية بدعوى مسؤولية الهيئة عن ذلك. ونجحت هذه الحملة نجاحاً منقطع النظير في توجيه الغضب الشعبي العارم ضدها، وتسابق المثقفون وغير المثقفين في صب جام غضبهم على الهيئة وكيل الشتائم والسخرية وابتداع الطرائف والنكت ضد رموزها، مما عرّضها ومسؤوليها وذويهم لأيام سوداء يصعب وصفها، وتُركوا يواجهون الأنواء الهائجة والأعاصير العاتية وحدهم دون تدخل حتى من لجان حقوق الإنسان في واحدة من أسوأ المسرحيات التراجيدية من نوعها التي عُرضت على المسرح السعودي. وشمل النقد كل قرار اتخذته الهيئة، وكل قرار لم تتخذه، وتوقيت تلك القرارات، وأساليبها ومحتوياتها. المؤسف والمقلق أن هذه الحملة استندت إلى مفهوم خاطئ بشأن دور الهيئة ووظيفتها، مقتضاه أن الهيئة هي جهة الإدارة بالنسبة للسوق المالية بمفهومها الشامل، وأن دور مجلس الهيئة بالنسبة لهذه السوق يشبه دور مجلس إدارة الشركة بالنسبة للشركة، فإذا انخفضت أسعار الأسهم في السوق المالية تحمل مجلس الهيئة المسؤولية مثلما يتحمل مجلس إدارة الشركة المسؤولية عن انخفاض أسعار أسهمها. وكتب رجل أعمال سعودي مقالاً يصف فيه الهيئة بربان السفينة الذي قادها للغرق رغم هدوء البحر، في إشارة إلى انخفاض أسعار الأسهم رغم الظروف المالية الممتازة. وطالب كاتب صحفي باستقالة الهيئة بعد نزول الأسعار قياساً على استقالة مدرب المنتخب بعد الهزيمة.
خلال السنوات الخمسة عشرة الماضية حدثت أكثر من عشر حالات انهيار في معظم الأسواق المالية الكبيرة بعضها كان أشد حدة مما حدث في المملكة ولم تواجه هيئات السوق المالية في أي من تلك الدول ما واجهته الهيئة السعودية بالرغم من تشابه المهام والظروف وذلك بسبب الوعي بطبيعة وظائفها. ففي اليابان على سبيل المثال أُلقي اللوم على تضخم الدين العام والخاص، وفي أمريكا أعادوا النظر في معايير المحاسبة وأخلاقياتها، وفي جنوب شرق آسيا أنحوا باللائمة على ما وصف بالأموال الساخنة والمضاربين العالميين مثل (سوروس)، وفي روسيا الاتحادية وجهت أصابع الاتهام نحو الفساد الإداري والمالي.
ومع كامل الاحترام للعدد القليل من الكتاب والمحللين الماليين الذين قالوا الحقيقة بشجاعة رغم تيار الغضب الجارف، وبغض النظر عمّن أشعل فتيل تلك الحملة ضد الهيئة، وهل هم من وصفهم الكاتب سعد الصويان بـ (أُصولية رأس المال)، أو كبار المضاربين المتهمين بالتلاعب بالسوق، أو بعض المحللين الماليين الذين سقوا جمهورهم كؤوساً من الأمل الكاذب وفشلوا في التنبؤ بحتمية الانخفاض، أو تحالف أكثر من طرف، فقد ترتب على تلك الحملة تركيز مفهوم خاطئ عن دور الهيئة ووظيفتها يُخشى أن يكون له آثار سلبية على المدى البعيد، وشُطبت إنجازات تكاد تكون نادرة في مقاييس العالم النامي، وأصبحت الهيئة تتشبث بصعوبة في دورها الحقيقي الذي يفترض الحياد الكامل بشأن الأسعار والتركيز على تنظيم السوق المالية والإشراف عليه. فهذه السوق عبارة عن منافسة (لعبة) بين فريقين هما البائعان والمشتران، يتداولون في أوراق مالية عبارة عن أجزاء صغيرة جداً من شركات المساهمة. تُباع هذه الأسهم أولاً من مؤسسي الشركة للحصول مقابل ذلك على التمويل اللازم لممارسة الشركة عملها، ويسمى ذلك بالسوق الأولي (في مقال سابق بينا أن هذا هو الهدف من قيام السوق المالية)، ثم يتم تداول هذه الأسهم عبر السوق المالية (السوق الثانوية). في هذه المنافسة يحتاج المتبارون إلى قوانين تبين قواعد اللعبة، وحَكَم ينظم سير المنافسة وفقاً لهذه القوانين، وشرطي يضبط المخالفين ويعاقبهم. هذا هو بالضبط دور هيئات السوق المالية. فهي تُصدر تلك القوانين وتفرض وتراقب تطبيقها وتُعاقب المخالفين أو تختصمهم أمام القضاء، وذلك من أجل ضمان العدالة والكفاية والشفافية في كافة معاملات الأوراق المالية، إصداراً وتداولاً، لأن ذلك هو الطريق الأمثل لبناء سوق مالية صلبة قادرة على تمويل مشاريع التنمية، جنباً إلى جنب مع مصادر التمويل الأخرى. الهيئة إذاً لا تقوم بدور ربان السفينة بالنسبة للسوق المالية، ولا تمثل دور مدرب الفريق، وإنما تقوم بدور الحكم في المباراة. وليس من بين مهام الهيئة دعم أسعار الشركات المدرجة في السوق، بل إن ذلك يتعارض مع رسالتها في الوقوف موقف الحياد التام بين البائعين والمشترين ومنع أي إجراء يوجد انطباعاً غير صحيح أو مضلل بشأن الأسعار أو السوق. وليس للهيئة إنشاء أو إدارة ما يسمى بصناديق التوازن أو صناعة السوق لأن ذلك يتعارض مع طبيعة عملها، ويجب أن تعامل الهيئة مثل هذه الصناديق في حال وجودها معاملة أي مستثمر آخر. وفي حين أن من بين أهداف الهيئة تعزيز السوق المالية فإن ذلك يكون فقط من خلال دعم الشفافية والعدالة في عمل السوق، والكفاية في مُصدري الأسهم المدرجة، لأن ذلك وحده كفيل بتعزيز الثقة وجلب المستثمرين. أما الجوانب الأخرى للسوق المالية فهي من اختصاص جهات أخرى، فمثلاً تختص الهيئة العامة للاستثمار بتشجيع الاستثمار، وتختص وزارة المالية ومؤسسة النقد العربي السعودي بمراقبة حجم السيولة ودرجة التضخم، وتهتم وزارة الاقتصاد والتخطيط بالجوانب الاقتصادية، وهكذا.
إن تصحيح ذلك المفهوم الخاطئ بشأن وظيفة الهيئة واجب وطني من أجل إبعاد الضغط الشعبي عنها في حالات المرور بدورات تصحيح الأسعار وما قد يترتب على ذلك من مساس بحيادها وتدخل في مجال عملها وتأثير سلبي على قراراتها، فاستقلال الهيئة وحيادها لا يتفق فقط مع المعايير المعتمدة من قبل المنظمات الدولية، وإنما يعد أمراً جوهرياً لأداء دورها الذي من أجله أنشئت، وهو بناء سوق مالية صلبة وموثوقة تكون رافداً للتمويل والاستثمار وداعماً للتنمية والازدهار ومصدراً للتوظيف والاستقرار. وبالله التوفيق.