أمريكا يديرها المهاجرون ويصعب الاستغناء عنهم
بالكاد شهدت واشنطن مناظرة سياسية خلال الأسابيع الماضية، تميّزت باتقادها وحماسها، كالمناظرة التي دارت حول إعادة هيكلة قانون الهجرة. والنزاع الذي تشهده واشنطن في الوقت الراهن حول اقتراحين تشريعيين مختلفين على مجلس الشيوخ و المجلس التنفيذي، يدوران حول سلسلة من النقاط: من بين هذه النقاط، الحديث عن الوسائل التي يُفترض استخدامها لتأمين حدود الدولة، وخاصة الجنوبية منها بمحاذاة المكسيك، بهدف تجفيف منبع الوافدين غير القانونيين. وهنا تلعب الاعتبارات في تحقيق الأمن القومي دوراً، حيث عن طريق الحدود المزعزعة يمكن أن يصل الإرهابيون أيضاً إلى الولايات المتحدة .
وتسيطر آراء مختلفة على هذه المناظرة، في أي نطاق يحتاج الاقتصاد الأمريكي إلى وافدين شرعيين وغير شرعيين. فمن دون المهاجرين لا يمكن لأمريكا أن تتدبّر أمورها، حسبما يرد عن البعض. بينما يرى البعض الآخر التهديد الذي يواجهه الأمريكان في صراعهم حول فرص العمل. وفي النهاية، فإن النزاع يدور حول الوسائل الناجعة لمعالجة أمر المهاجرين غير الشرعيين البالغ عددهم نحو 21 مليون تقريباً، الذين يُقيمون في أمريكا فعلياً. وتمتد المقترحات من العفو العام، إلى شرعية العمّال الأجانب، وحتى الأمر بطردهم. "إن هذا يؤكد أمراً ما عن دولتنا، حيث يستعد الناس من أنحاء العالم بأسره، لترك أوطانهم، وعائلاتهم، مخاطرين بكل شيء، ليصلوا إلى أمريكا. ومع قدراتهم، ورغبتهم في الحرية، وعن طريق الكدّ والعمل، تمكنوا من جعل أمريكا قوة رائدة في العالم"، حسبما ورد عن الرئيس الأمريكي، جورج بوش، منذ فترة ليست ببعيدة، عندما ألقى كلمته أثناء هذه المناظرة. ويدعو بوش إلى وضع ضوابط أعلى على الحدود، ولكنه يعتقد أنه من الخطأ والأوهام، العمل على طرد الوافدين غير الشرعيين. وبدلاً من هذا، يريد القيام ببرنامج جديد يختص بالأيدي العاملة الأجنبية، بحيث يفتح الطريق للأيدي العاملة الأجنبية أمام الإقامة الدائمة، وبالتالي جعلهم مواطنين في النهاية.
وبالفعل لا يمكن القول إن تصريح بوش ليس منصفاً، حيث إن أمريكا تأسست لأول مرة عن طريق المهاجرين، وتشكّلت من صنع أيديهم، هؤلاء الذين تمنوا الحرية، والعدالة في الفرص. نحو 60 مليون شخص هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1820، وعلى خلاف الأزمان المبكرة، حيث لا يتوافد أغلب المهاجرين اليوم من أوروبا فقط. فهم يفدون من أمريكا اللاتينية، وبالأخص من الدولة المجاورة المكسيك، ومن آسيا. وتحتل كل من الصين، والهند رأس قائمة الدول، والتي يتم منح مواطنيها رخصة عمل وإقامة دائمة، والتي تُسمى "الجرين كارد – الكرت الأخضر"، المركز الثاني والثالث. والعام الماضي، كما أشارت إحصاءات وزارة الدفاع، حصل نحو 1.122.373 أجنبي على الكرت الأخضر، نحو ثلثيهم كانوا حتى تلك اللحظة في الولايات المتحدة، مقيمين على أساس فيزا عمل. ويعود أصل نحو 14 في المائة من مالكي الكرت الأخضر من المكسيك، و8 في المائة من الهند، و6 في المائة من الصين. وتشريع الهجرة الساري الذي يعود بأصله إلى عام 1990، يرى أسباباً مختلفة وراء منح ترخيص الإقامة أهمها: جمع شمل العائلات، وحاجة الأيدي العاملة المتخصصة للشركات، وإلى تنوع الأصول العرقية وحتى المستثمرين الأجانب لديهم الفرصة لطلب الحصول على رخصة إقامة. وتضاعف حجم منح الكرت الأخضر سنوياً من 250 ألفا خلال الخمسينيات بالمعدل إلى أربعة أضعاف أي إلى نحو 980 ألفا خلال التسعينيات من العقد الماضي.
وبناءً على تقديرات مركز بيو هيسبانيك، أحد المراكز الفكرية في واشنطن، فإن نحو نصف المهاجرين غير الشرعيين، أي ما يعادل ستة ملايين، كانوا قد دخلوا الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة بكامل الشرعية. ولكنهم عقب انتهاء فيزا الزيارة أو العمل الخاصة بهم. ونحو جزء صغير فقط من المهاجرين غير الشرعيين، الذين يتهربون من ضوابط الحدود، يتم الإمساك بهم في القطار، أو عن طريق المرور الليلي في صحراء أريزونا. وكما يجادل مركز بيو هيسبانيك، وبأنه من غير اللائق، وبالأخص من قبل المكسيكيين العاطلين عن العمل، القدوم إلى أمريكا على نحوٍ غير شرعي. حيث إن "أغلب المهاجرين غير الموثقين القادمين من المكسيك كانوا يحظون بعمل قبل أن يشقوا طريقهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية"، كما ورد عن إحدى الدراسات. ولكن تُعتبر الأجور المتاحة في الولايات المتحدة، وجودة العمل، وكذلك الفرص الاقتصادية، أكبر بالنسبة لكثير من المهاجرين بالمقارنة مع تلك في الوطن. وهذا بالفعل ينطبق على الواقع، برغم أن الكثير من الوافدين لا يحرزون أكثر من الحد الأدنى للأجور الشرعية أي نحو 5.15 دولار في الساعة أو أقل. "وعقب مرحلة قصيرة من التنقّل والاستيطان، فإن المهاجرين لا يواجهون الكثير من الصعوبات في إيجاد عملٍ ما". ولعبت الروابط العائلية، والعلاقات الاجتماعية بالنسبة للمهاجرين دوراً مهماً في هذه الشأن. "إن الطلب على القوى العاملة يؤكّد على القدرة الاقتصادية للمهاجرين المكسيكيين. وبغض النظر عن خبراتهم، ومستوياتهم التعليمية في المكسيك، فإن التوظيف يتركّز في فروع كثيرة: الإقليم الزراعي، ومهن المطاعم والفنادق، والمهن الإنشائية والإنتاجية"، حسب ما ورد عن مركز بيو.
وينظر دانيل جريسولد من مؤسسة كاتو، أحد المفكرين المتحررين في العاصمة الأمريكية، على نحوٍ مماثل إذ يقول : "إن تدفق المهاجرين يتحقق بفعل الطلب على الأيدي العاملة في أمريكا. وعندما يزدهر الاقتصاد، يتقدّم المزيد من المهاجرين، وإذا ما فتر، يفد أقل". إن المهاجرين عوامل جيّدة بالنسبة لأمريكا، حيث أثبتوا استعدادهم للمخاطرة، ورغبتهم في العمل بقرار منهم بترك أوطانهم واتخاذ بداية جديدة. وبالإضافة إلى هذا، فإن أغلبهم يجيئون إلى أمريكا ضمن أعمار فتية، حيث يبلغ المعدل العمري نحو 28 عاماً، ويسهمون في النطاق الضخم للتمويل ضمن إجراءات التأمين التقاعدي الحكومي المنتظم (ضمان اجتماعي)، وكذلك في التأمين الصحي. وحول الجدل الصادر عن المؤيدين لسياسة التهجير الصارمة، خشية أن يستولي المهاجرون على فرص عمل الأمريكان، فإنها من وجهة نظر جريسوولد ليست صحيحة. "هم بالفعل يملأون كوات مختلفة وكثيرة في سوق العمل، حيث يشهد الطلب الكبير على الأيدي العاملة عروض محدودة. ولكنهم يتممون العرض بالأحرى أكثر، وكأنهم يمثلون منافسة"، حسبما ورد عن جريسوولد. إن الهجرة اللاشرعية هي نتيجة أحد القوانين، التي لا تقدّم للمكسيكيين الراغبين في العمل، أو الناس من الدول الأخرى، الفرصة للعمل في فرص عمل محددة زمنياً. وبالفعل يوجد أصناف من الفيزا للعمّال الأجانب لمختلف درجات التأهيل. ولكن يتم منحها على نحو محدود، ويتم الوصول إلى الحدود القصوى بالعادة سريعاً. ويدعو جريسوولد، إلى وضع قانون هجرة جديد، والذي يجعل غير الشرعي شرعياً. "لابد من توقّف أجزاء كبيرة من الديناميكية في الاقتصاد الأمريكي، وملايين العائلات عليهم أن يتأقلموا على تراجع الأجر الفعلي، في حالة تم طرد المهاجرين غير الشرعيين"، حسب تحذيرات جريسوولد.
والوضع، حيث يعيش ملايين المهاجرين غير الشرعيين في الولايات المتحدة الأمريكية، ويمسكون بفرص العمل، يُعزى إلى النقص في الضبط الحكومي، حيث إن الشركات ممنوعة، من توظيف الأيدي العاملة غير الموثّقة، وبرغم هذا فإن الكثير من الشركات لا تطلب إثباتاً أو ترخيصاً بالعمل. ونادراً ما تقوم السلطات بالبحث والمراقبة، وبالفعل هذه الأمور تستلزم الكثير من المبالغ الباهظة في الدول الكبرى. ولكن ما يحدث أيضاً، أن المهاجرين غير الشرعيين يدفعون للمساهمة في التأمين الاجتماعي، والضرائب، التي يتم إيصالها من صاحب العمل نفسه مباشرةً إلى الصناديق والدائرة المالية. ويقول تيم كين، من مؤسسة الإرث المحافظ، إن مساهمات التأمين التقاعدي عن غير الشرعيين، ساهمت فعلاً في تحقيق فائض من حصص الأرباح الضخمة في التأمين التقاعدي للضمان الاجتماعي الحكومي خلال الأعوام الماضية. وبالفعل فإن المهاجرين، سواء منهم الشرعيون أو غير الشرعيين، وعائلاتهم، هم أرباح مؤكدة للحكومة. وفي سير الحياة، دفعت كل عائلة نحو 88 ألف دولار أكثر من الضرائب والالتزامات، أكثر مما لو كان المهاجر منفرداً. أما بالنسبة للمهاجر من أمريكا اللاتينية، وكذلك ما ينطبق على العديد من الدول الأخرى، فإنهم يحققون دخلاً إجمالياً أقل من المواطنين الأمريكان. وبالتالي، فإنه يُتاح لهم أموال أقل لتنمية الثروة الخاصة، وللتأمين التقاعدي الخاص. أما بالنسبة لحجم كبير من المهاجرين، فإن الأجور التقاعدية الناتجة عن الضمان الاجتماعي عند التقدّم في السن أحد أهم الحوافز المتاحة هناك.