أسهم نقية وسياحة نقية

<a href="mailto:[email protected]">sowayan_media@yahoo.com</a>

في الندوة التي نظمتها الأسبوع الماضي جريدة "الاقتصادية" تحدث سمو الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز عن معشوقته السياحة، وما أجمل حديث العشاق· نادرا ما ترى مسؤولا تشرّب قضيته واستوعبها وهام بها عشقا وجعل منها طموحا كرّس له كل وقته وهدفا صرف له كل جهده مثل الأمير سلطان· لقد شنّف الأمير أسماعنا بإنجازات حقيقية تحسب لهيئة السياحة خلال عمرها القصير· فلقد اكتملت بنية الهيئة كجهاز تنظيمي وأصبحت على وشك أن تطلق مبادرات ملموسة على الأرض في مجال السياحة الداخلية· لقد برهن لنا حديث الأمير أن السياحة ليست مجرد أماكن ومعالم يزورها السيّاح، إنها أيضا عمل مستمر وجهد دؤوب من التنظيم والتخطيط والرؤى والتصورات والمشاريع التي يتطلب تنفيذها وتطويرها مالا وجهدا وتنسيقا بين مختلف الجهات ذات العلاقة، ولولا عزيمة الأمير وتصميمه مع فريق العاملين معه في الهيئة أعانهم الله لما أمكن تذليل كل هذه العقبات·
أن تتمكن الهيئة من تحويل المملكة إلى بلد سياحي، فهذه نقلة ثقافية وذهنية ليست بالهينة وإنجاز تشكر عليه الهيئة· ولا أقول ذلك جزافا، وإنما لسبب وجيه· لا ننسى أن مجتمعنا كان حتى عهد قريب، وربما لا يزال إلى حد الآن، يتحاشى الاحتكاك بالغرباء ويتوجس خيفة من الأجانب· الخوف والريبة خصلتان متأصلتان فينا تكادان تلغيان خصالا أخرى حميدة مثل الكرم والأريحية والنخوة والشهامة· كنا إلى عهد قريب نسير في الطرقات متلثمين خشية أن يعرفنا أحد، ولو أن أحدا لا تعرفه سألك من أنت فقد تتردد في البوح باسمك· وأغلبنا يتحاشى التجمعات والأماكن العامة والاختلاط بالآخرين والتحدث معهم· انظر إلى هذه الأسوار العالية التي نسوّر بها بيوتنا بحيث حوّلناها إلى قلاع مصمتة· أعتقد أننا الوحيدون من بين شعوب العالم كله الذين نركّب الكمرات والإنتركم على أبوابنا لنعرف هوية من يدق الجرس قبل أن نتجرّأ بالفتح له واستقباله، ولا أستبعد أن "لهلمتنا" المبالغ فيها لحريمنا تنبثق من هذه الاعتبارات· بل لقد انعكس هذا على مدننا بحيث لا توجد فيها أماكن عامة وحدائق ومتنزهات يتجمع فيها الناس وفضاءات أخرى للفرجة والمتعة والفرح والبهجة، بل إن أفراد العائلة الواحدة نادرا ما يذهبون إلى الفسحة مجتمعين، إذ يتحتم على الأم والبنات أن يسلكوا طريقا غير طريق الأب والأولاد؟ إننا ما زلنا مثقلين بذهنياتنا وقيمنا الريفية من التوجس من الآخر وعدم الثقة في الغريب، إلى مفاهيم "العيب والستر والعورة"· وحينما أتكلم هنا عن الغريب والأجنبي فإنني لا أقصد الأوروبيين أو الأمريكان أو اليابانيين أو الصينيين، بل أعني أناسا منا وفينا ولكن ربما من مناطق أخرى من المملكة·
أن يتمكن الأمير سلطان وفريقه من العاملين معه من تغيير هذه العقلية عن طريق التنشيط السياحي، فهذا ليس مجرد إنجاز اقتصادي، بل هو فوق ذلك إنجاز ثقافي واجتماعي نحن في أمس الحاجة إليه، وهو مما سيسهم ويساعد على دمجنا في العالم المعاصر· لربما أن العاملين في مجال السياحة عندنا أدركوا من خلال الممارسة الفعلية أن السياحة ترتبط بقيم وسلوكيات وممارسات ومفاهيم اجتماعية يمكن أن تشجع السياحة ويمكن أن تقف حجر عثرة في طريق نموها وتطورها· أكثر السياح السعوديين يقضون إجازتهم خارج البلاد فارين بجلودهم مما يعانونه من اختناق اجتماعي· إنهم يريدون أن يصطحبوا عائلاتهم معهم ويستمتعوا بقضاء أوقاتهم مع بعضهم البعض، الأب والأم والأولاد، وربما الأصدقاء، في المطاعم والمقاهي ودور السينما والمسارح والمتنزهات· لا يدرك طعم هذه التجربة ولذتها وما تجلبه من متعة وتواصل والتحام عائلي وحميمية إلا مَن مرّ بها وجرّبها· لكن ليس كل العائلات بمقدورها أن توفّر من المصاريف ما يكفي للتنزه خارج البلاد· وجزى الله هيئة السياحة خيرا لو استطاعت أن توفر لنا مثل هذه الأجواء في بلادنا· إن هذا سوف يخفف كثيرا من الضغوط النفسية والاجتماعية التي يعاني منها مجتمعنا، وسيحد من التوتر والعُصاب ومن حوادث العنف الأسري والاجتماعي·
بلادنا تمتلك كل مقومات السياحة من معالم وآثار وحياة فطرية وطبيعة صحراوية وبحرية، هناك المظاهر التضاريسية والطبوغرافية والمواقع الجغرافية وما يعيش عليها من كائنات عجيبة وما تحتضنه من مناظر خلابة: البحر بشعبه المرجانية وشواطئه الرملية النظيفة، الحرات والجبال بتكويناتها وشموخها· هذا عدا الثقافة المادية والحِرف التقليدية والرقصات والفنون الشعبية المتنوعة· نريد من هيئة السياسة أن تكمل ما بدأه مهرجان الجنادرية بعروضه وفرقه الشعبية المختلفة من شتى أنحاء المملكة، والتي تؤكد إمكانية دمج ثقافاتنا المحلية والفرعية في مركب ثقافي مشترك ملك للجميع· لقد أثبتت الجنادرية أن لدينا ثروات وكنوزا فنية لكنها تحتاج إلى رعاية وتطوير، وإلى معالجة عصرية ومدروسة لتتحول إلى عناصر جذب سياحي· وسيكون استعراض الأماكن السياحية فرصة لشم عبق التاريخ وسرد قصة الحضارة على هذه الأرض وما مرّ بها من أحداث وتوالت عليها من دول وممالك·
لقد قال الأمير سلطان في اللقاء، وهو صادق فيما قال، إننا لا نعرف بعضنا بعضا حق المعرفة· فالحضري يجهل البدوي والنجدي يجهل الحجازي والشمالي لا يعرف الجنوبي· كم منا مثلا زار المتنزهات الطبيعية الجميلة جدا، خصوصا أيام الربيع، في منطقة حائل أو منطقة الجوف؟ مَن منا يعرف كم هي جميلة منطقة الهضب في وادي الدواسر؟ بل هل نحن نفهم بعضنا بعضا لو أننا تكلمنا كل منا بلهجته المحلية؟ لماذا كل هذه الجفوة والقطيعة؟ لماذا نعرف عن صنّين أكثر مما نعرف عن السودة ونعرف عن بعلبك أكثر مما نعرف عن مدائن صالح؟ السياحة الداخلية سوف تسهم في تعريفنا ببلادنا وفي تعرّفنا على بعضنا البعض، وبالتالي في تعزيز التلاحم الاجتماعي بيننا وتنمية الحس الوطني· فنحن الآن أحوج ما نكون إلى الالتفاف والتلاحم والانصهار في بوتقة شعور وطني واحد ورؤية جماعية وأهداف مشتركة بيننا يتفق عليها الجميع· لقد آن لنا الأوان أن ندعم وحدتنا السياسية والجغرافية، ونحمي مكتسباتنا ونعززها بوحدة اجتماعية ثقافية تجعلنا نحس بأننا، إضافة إلى كوننا أبناء وطن واحد، أعضاء في مجتمع واحد متلاحم متماسك له ثقافة مشتركة· إننا نستطيع أن نحقق ذلك حينما نعيد -من خلال البرامج السياحية والترفيهية - صياغة الثقافات المحلية والإقليمية والطائفية والقبلية المبعثرة ونحيلها من خيوط مهلهلة إلى نسيج متماسك، ومن شظايا متناثرة إلى كيان ثقافي حي له فاعلية وتأثير وحضور قوي ومحسوس· نريد أن نمزج هذه المكونات الثقافية ونصهرها لتتفاعل فيما بينها وتشكل مع بعضها هوية وطنية شمولية يتماهى فيها الكل وتستوعب الجميع وتحل محل الثقافات الفرعية، ويكون عنوانها تكريس الهوية وروح الانتماء والولاء لوطن واحد بين مختلف فئات الشعب وطبقاته وفي كل المناطق·
هكذا نقدم للمشاهد برامج سياحية ممتعة وشيقة وراقية، وهي في الوقت نفسه، ودون أن تبدو كذلك برامج في التربية الوطنية والتوعية وحب الوطن، بعيدا عن الخطابية ونغمة التبشير· لا بد للإنسان أن يعرف وطنه جيدا ويتآلف معه ليحبه ويتعلق بأرضه وسمائه ويحافظ عليه ويدافع عنه· يعرف وطنه وأرضه وثقافته وتاريخه هكذا بكرا عارية على الفطرة التي خلقها الله عليها، بدون تخريجات أيديولوجية أو رتوش سياسية·
ومع ما نعقده من آمال عريضة على هيئة السياحة، فإننا لا نستهين بما تواجهه - أعانها الله - من تحديات وعقبات وضغوط· فهناك فئة - سامحها الله - لا يسعدها أن ترانا سعداء، فئة ناصبت العداء لكل ما هو مفرح وبهيج في هذه الدنيا، فئة تريد باسم "الخصوصية" أن تحشرنا في زاوية ضيقة وتعزلنا عن بقية العالم المتحضر· وهي لا يرضيها أن تحتفظ لنفسها بهذا التزمت وهذا الأسلوب القاتم في العيش، بل تريد أن تفرضه على المجتمع برمته· إنهم، كما يدّعون، يريدون سياحة نقية· ولكن على هيئة السياحة أن تنتبه ما حدث لسوق الأسهم حينما تدخلت فيه هذه الفئة وصارت تصنف الأسهم إلى أسهم نقية وأسهم غير نقية· إننا نريد النجاح لهيئة السياحة ولا نريد لها أن تؤول إلى ما آلت إليه سوق الأسهم التي دعكوها بالماء والشنان لتصبح طاهرة نقية حتى اضمحلّت وتلاشت وصارت أثرا بعد عين·
هيا يا سمو الأمير، شمّر عن ساعديك وهيّئ الأسباب وعرّفنا على بلادنا وعلى بعضنا البعض من خلال السياحة· إنك بذلك تقدم خدمة جليلة لوطنك ولأبناء وطنك·

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي