الإيمان والعقل
<a href="mailto:[email protected]">sowayan_media@yahoo.com</a>
ردود الفعل الغاضبة على محاضرة البابا بينيديكتوس مؤشر خطير على عمق الأزمة التي تمر بها العلاقات بين العالم الإسلامي وعالم الغرب المسيحي، لقد وصلت هذه العلاقة إلى درجة من التوتر بحيث بدأنا نحس وكأننا جلوس على برميل من البارود جاهز للانفجار في أي لحظة، وأن شرارة واحدة يمكن أن تحيل عالمنا إلى شظايا متطايرة. الوضع الذي نعيشه اليوم أوصلنا إلى مفترق طرق قد يقود عالمنا إلى صراع حضاري وديني من الوزن المدمر. وأخطر ما في الأمر أن هذه القضايا لديها القابلية لأن تفلت من أيدي العقلاء والقادة المسؤولين لتصبح لعبة خطرة في أيدي الموتورين وأصحاب الأجندات الخفية الذين يجيدون استغلال المشاعر الجيّاشة من أجل تقويض الأوضاع القائمة لإعادة ترتيبها وبنائها من جديد على أسس تخدم أغراضهم وتوجهاتهم. وفي ظل ما تعاني منه البلاد الإسلامية من تخلف وضعف في القيادات الفكرية والسياسية، فإن الغوغائيين والديماجوجيين لن يترددوا عن الإمساك بمقاليد الشارع ليوجهوه نحو حافة الهاوية.
إن ردود الفعل التي تخرج عن إطار المعقولية وتطلق العنان للانفعالات المشحونة وللأفعال غير المحسوبة والأقوال غير الموزونة هي الوقود الذي يغذي مشاعر الكره للإسلام والمسلمين، وهي التي تثبت مقولة أن الإسلام دين عنف وإرهاب. إننا لا نقبل الإساءة للإسلام، مثلما أننا لا نقبل الإساءة لأي دين أو مذهب أو جنس، لكن التعاطي مع هذه الأمور ينبغي أن تتغلب فيه لغة الحوار ومنطق الحكمة انطلاقا من مبدأ: وجادلهم بالتي هي أحسن. اتباع هذا النهج الحواري هو الأكثر إقناعا وأبلغ تأثيرا، وهو الذي يعطي صورة مشرفة لديننا وثقافتنا. لا ينبغي لنا أن نفترض أن الآخرين يفهمون ديننا ويحترمون عقيدتنا مثلنا نحن. إن مسؤوليتنا أن نوصل إليهم هذا الفهم وأن نكسب احترامهم ولكن بالطرق الصحيحة، فالدين رسالة تحتاج إلى دعوة وتبليغ. وفي ظل ما يتعرّض له الإسلام من هجمات وسوء، فهم فإنه لم يكن في أي عصر من عصوره بأحوج منه الآن إلى إظهار ما يدعو إليه من قيم الصفح والرحمة والتسامح: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. إن مفهوم الهداية الذي يؤكد عليه الدين الإسلامي يفترض أن الآخر بحاجة إلى من يهديه سواء السبيل. والهداية تتضمن معاني اللين والرفق مع الآخر والحرص على ما فيه خيره وصلاحه.
انطلاقا من هذه المبادئ أريد أن أحاور البابا فيما جاء في محاضرته عن العقل والإيمان. بداية لا أعتقد أنه من العدل أن يتصدى شخص يدين بديانة أخرى لإطلاق أحكام حول صحة أو معقولية معتقدات دين لا يدين به. كما أنني لا أعتقد أن هناك دينا أقرب إلى العقل من دين آخر، لأن مفهوم الدين، أيا كان ذلك الدين، يقوم أساسا على مبدأ الإيمان الذي لا يستند في قناعاته إلى حجج منطقية، وإنما إلى التسليم المطلق بما جاء به الوحي المنزل. الإيمان حالة ذهنية ووجدانية غير قابلة للتعليل والتحليل. هذا يجعل من الدين مجالا يختلف تماما عن مجالات العلم والفلسفة. ومن هنا برز السؤال الذي طرحه البابا حول العقل والإيمان. وفي اعتقادي أن الإشكالية تتمثل في محاولة اللاهوتيين والفلاسفة في جميع الأديان تجسير الهوة بين العقل والدين، بين حقائق العلم ومسلمات الدين الغيبية. وإذا أخذنا الموضوع من هذه الزاوية فإن محاولات المسلمين في هذا الصدد لا تقل جدية عن محاولات المسيحيين، ابتداء من المعتزلة مرورا بالمتكلمين ثم الأشاعرة وإخوان الصفا. والمسألة هنا تتخذ بعدين متمايزين، أولهما أن الدين الإسلامي في أوج ازدهار الحضارة الإسلامية لم يمنع معتنقيه من تعاطي الفلسفة وإفساح المجال للعقل لمزاولة نشاطه، وثانيهما أن إشكالية التوفيق بين الفلسفة والدين احتلت حيّزا مهما من النشاطات العقلية للفلاسفة المسلمين.
ويتصدر قائمة الفلاسفة المسلمين الذين تصدوا لبحث العلاقة بين الدين والفلسفة الفارابي والغزالي وابن رشد. بل إن محاولات اللاهوتيين المسيحيين في القرون الوسطى للتعاطي مع هذه الإشكالية، ابتداء من القديس توما الأكويني، لم تكن إلا استمرارا لمحاولات المسلمين. في بداية عصر النهضة حينما تحوّلت الأديرة اللاهوتية إلى جامعات علمانية كانت المقررات التي تدرس في غالبية المواد هي كتب العلماء والفلاسفة المسلمين، خصوصا في باريس وأكسفورد. وحيث إن تلك الجامعات لم تتحرر كليا من ربقة الإشراف الديني، فإن القائمين عليها لم يخفوا حنقهم من تدريس أعمال المسلمين الذين عدّوهم كفرة وملحدين. وحدثت ردة فعل ضد من كانوا يسمون بالرشديين Avorriists، والذين تبنوا آراء ابن رشد وانطلقوا منها ليقرروا ازدواجية الحقيقة. ولعله من غير المناسب في مقالة صحفية محدودة المساحة الخوض في تعاريج الفكر الفلسفي، إلا أنني أود الإشارة إلى أن الفكر اللاهوتي المسيحي له مواقفه التي لم تكن دائما على وئام مع العقل، فقد أصدر أسقف باريس إيتيان تيمبيير Etienne Tempier سنة 1277 فتوى تجرم كلا من سيغر البرابانتي Siger of Brabant وبوتيوس السويدي Boetius of Dacia لأنهما من الرشديين الذين قالوا إنه لا يجوز الحكم على صحة حقائق الدين انطلاقا من منطق العلم ولا على حقائق العلم انطلاقا من منطق الدين.
هذا من ناحية الموقف من العقل، أما مسائل العقيدة ذاتها، كما بلورها وصاغها فقهاء المسيحية، فإن فيها من المسائل العقدية ما استعصى فهمه حتى على عقول المسيحيين أنفسهم ودارت حولها نقاشات حادة قسمت المسيحيين إلى فرق وشيع، وأدت إلى خلافات مذهبية قامت بينهم بسببها فتن طائفية. فقد شهدت المسيحية منذ أوائل عهدها هرطقات عقائدية وخلافات مذهبية عميقة تتمحور في أساسها حول معنى الثالوث وطبيعة المسيح، وما يترتب على ذلك من تفرعات تتعلق بصلة (الأقانيم) الثلاثة فيما بينها وصلة الكلمة كأقنوم إلهي بيسوع المسيح كإنسان، وفيما إذا كانت مريم العذراء أم المسيح في طبيعته الناسوتية أم في طبيعته اللاهوتية، والخلاف حول معاني وطبيعة مختلف الأسرار والطقوس الكنسية مثل التعميد والقداس والتجسد والفداء.
لا أحد ينكر أن المسيحية إبان ظهورها احتكت بالفلسفة اليونانية التي كانت قد رسمت للكون صورة مشبعة بالعقل، إلا أن البيئة الهيلينية التي نشر فيها القديس بولس تعاليمه خارج فلسطين كان لها أثرها في نزوع المسيحية نحو تأليه المسيح. فقد تسرّبت إليها من ثقافة الإغريق وثقافات الشرق كثير من الأساطير التي تتمحور حول فكرة إله يموت في موسم من السنة ثم يبعث في الموسم التالي لينجي أتباعه ويقودهم نحو الخلود، وهذا ما انعكس على فكرة قيام عيسى بعد صلبه. وتشير هذه الأساطير إلى أن الإله يتعذب ويموت مثل الإنسان ثم يبعث من جديد، وهو بذلك يمثل بشكل رمزي مأساة الحياة الإنسانية المتجددة على الأرض. وكانت تقام لذلك الطقوس والقرابين التي من خلالها يتوحد المؤمنون بربهم الشفيع المنقذ، وتتحقق لهم النجاة والخلود بعد الموت والخلاص من محن الحياة الدنيا. وهذا شبيه بما توحي به الأسرار المسيحية التي تدفع إلى الاعتقاد بأن نجاة المؤمن رهن بتوحده مع المسيح، حسب طقوس تتمثل في التعميد، الذي يرمز إلى مشاركة المسيح في موته وبعثه، وفي القربان الذي يعد إحياء للعشاء الأخير الذي تناوله المسيح مع حوارييه ليلة صلبه، وهو رمز يحوله القداس إلى لحم المسيح ودمه ويمكن المؤمنين بذلك من الاتحاد مع المسيح.
أما التسامح، فإن الإسلام لا يقول كما يقول أوغسطين وغيره من فقهاء المسيحية إن الإنسان خطاء بطبعه، بل إن الإسلام أكثر اعتدالا في تفسيره لمفهوم الخطيئة الأصلية التي تقول المسيحية إن ذرية آدم يتوارثونها من بعده، وأنه لا ينجو منها إلا من يعترف منهم بألوهية المسيح وصلبه، ومن لا يعترف بذلك حُكم عليه بالبوار وحلت عليه اللعنة. والإسلام أكثر تسامحا في تعامله مع أهل الديانات الأخرى. فلم يعرف التاريخ الإسلامي محاكم التفتيش ولا محارق النازية ولا هيروشيما. كان للذميين من أهل الكتاب في المجتمع المسلم وضع قانوني وتعاقدي يحفظ لهم حقوقهم ويحمي أرواحهم وممتلكاتهم. أما السيف وما أدراك ما السيف فأتني بأمة أو دين لم يلجأ إلى السيف في فترة من الفترات لسبب أو لآخر. والذي بيته من زجاج لا يليق به أن يبحلق في بيوت جيرانه ويتلصص على سوءاتهم، بل الأجمل أن يشيح ببصره ويغض الطرف. ونقول ما قال عيسى حينما ضبط الفريسيون زانية وأحضروها له ليرجمها فقال: مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.
وتبقى كلمة أخيرة لا بد منها. قبل أن نطالب الآخرين باحترام مشاعرنا في خطبهم وكُتبِهم، علينا نحن أولا أن نحترم مشاعرهم في خطبنا وكتبنا. لكي يحظى أي دين بالاحترام من قبل الآخرين، لا بد أولا لمن يدينون به ويقتدون به في مجمل سلوكياتهم أن يستحقوا ذلك الاحترام ويكونوا محلا له في أقوالهم وأفعالهم. والدين ليس كائنا مطلقا له وجود مستقل عمَن يدينون به. يتحقق الدين ويتمثل في سلوكيات وممارسات معتنقيه. إنه مؤسسة اجتماعية مثل غيره من المؤسسات الاجتماعية، لذا فإنه مرتبط بحالة المجتمع من حيث التطور أو التخلف. فالمجتمعات المتحضرة تملك مؤسسات اجتماعية متطورة، وعلى عكس ذلك تكون المجتمعات المتخلفة. أما إذا أردنا مقارنة المسيحية بالإسلام فلا يجوز لنا أن نأخذ المسيحية في أفضل أطوارها والإسلام في أسوأ أطواره ونقارن بينهما، بل ينبغي أن تتم المقارنة أخذا بالاعتبار مجمل العصور والمراحل والظروف. ولكن الأفضل أن لا نقارن وأن لا نفاضل، بل أن نتقبل بعضنا البعض ونحترم بعضنا البعض ونتعايش بسلام لنحقق رسالتنا الإلهية في تعمير هذا الكون ونطبق المبدأ العظيم: لكم دينكم ولي دين.