النفاق الاجتماعي

النفاق الاجتماعي

يختزل الشعر الراحل الأمير محمد الأحمد السديري – يرحمه الله – النفاق الاجتماعي في بيت من قصيدته المشهورة "الله من هم" إذ يقول:
يقضب عليك المخطية من حجمها
حلو نباه وقلبه أسود من الصاج
وقد جسّد الشاعر وصف المنافق أبلغ تجسيد بتلك الكلمات التي غدت من "المحكي" المتناقل عبر الأجيال. فالنفاق أن يُظهر الشخص ما لا يُبطن.
والمنافقون في الدرك الأسفل من النار كما أخبرنا نبي الهدى صلى الله عليه وسلم، وقد أفد الحق سبحانه وتعالى سورة كاملة أطلق عليها اسم "المنافقون".
فلقد تمّكن الشاعر من وصف جمال منطق وفصاحة لسان المنافق حين قال "حلوة نباه"، لكن الشاعر – بفطرته وخبرته وذكائه – يدرك الدوافع الحقيقية التي تكمن خلف هذه الفصاحة المصطنعة، فعبّر عن ذلك بتشبيه قلب المنافق بأنه "أسود من الصاج" وهنا تكمن جمالية التوظيف للمفردة الشعبية (الصاج). فوصف النفاق بالاجتماعي هنا لتأكيد أن مسرحه هو الحراك الاجتماعي. بمعنى آخر، لا يحصل إلا إبان التعايش مع "الآخر". وكما قيل:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
وهذا الشاعر الفذ معالي الدكتور غازي القصيبي يختزل حال المنافقين في هذا البيت الرائع:
دعوى الوداد تلوح فوق شفاههم
أما القلوب فجال فيها أشعب
يتجسد النفاق الاجتماعي أكثر ما يتجسد في حال احتكاك من هم أقل وظيفيا أو طبقيا بمن هم أعلى. هذا الحراك الطبيعي والأزلي يفرخ حالات النفاق الاجتماعي بشكل فج. وكلما اهتزت المنظومة القيمية للمرء ظهر هذا المسلك بشكل واضح.
والسؤال الذي يفرض نفسه: ما طبيعة "المناخات النفسية" التي تُفرخ مثل هذا المسلك اللا أخلاقي؟
لا توجد إجابة جامعة مانعة لهذا السؤال، لكني سأجتهد في سبر أغوار الإجابة..
حين سيتدخل الطفل إبان التنشئة الاجتماعية تعزيزاً لازدواجية السلوك فإنه يعمل بها بعن طريق ما يعرف بـ "النمذجة" أو التقليد، فمثلا حين يلحظ الطفل استجابة من هم أكبر منه سنا لمن يُعتقد أنه شخص "مهم" والإسهاب في مدحه بحيث تُضخم ذات المخاطب، ساعتئذ، يُحجم الطفل "أنموذجه" الطبيعي ويستدخل النموذج الجديد. هنا، يبدأ عملية (لاشعورية) بالتماهي مع النموذج الجديد. بعد إتمام هذه العملية النفسية المعقدة، تكون عفوية الطفل قد انتهكت. ومن بعد ذلك يستمرئ التعامل مع "المنتفخين" بانبطاح مُشين يسحق آدميته، ويحوله إلى إنسان آلي مسلوب الإرادة، مشوّه في بنائه النفسي حد "المسخ". ويُعمم هذا الواقع النفسي على مواقف اجتماعية أخرى، ويُعزز من قبل "المنتخين"، ويُنمذج من قبل آخرين من المحيطين، وينتشر حتى يغطي شرائح مجتمعية كبيرة. ولا مجال لإيقافه ما دام قد صار هو القاعدة السلوكية. حين يتجسد ذلك، يُصبح "النفاق الاجتماعي" هو القاعدة، والسلوك الكريم (السوي) هو الشاذ!

أستاذ علم النفس الإرشادي المشارك
استشاري العلاج النفسي
جامعة الملك سعود
[email protected]

الأكثر قراءة