صراع الفصيح والمحكي.. تراكم جدلي يوقظ نار الخلافات بين النخبوي والشعبي
من المهم أن ننوه إلى أن الموضوع الذي نشر الجمعة الماضية في "بالمحكي"، وحمل عنوان "عضو مجلس شورى يفتح النار على شاعر المليون" وأخذ شكل التصريح الصحافي للدكتور عبد الله الفيفي عضو مجلس الشورى، لم يٌقصد به التأثير أو تجييش الشارع الشعبي كما رأى الدكتور ضد شخصه الكريم، ونؤكد في هذا السياق أن الدكتور لم يذكر في مقاله الذي أرسله لـ "الاقتصادية" وأراد نشره في صفحاتها الثقافية مفردة "شاعر المليون"، ونؤكد أيضا أن محرر الصفحة اجتهد في تفسير ما قصد الدكتور من جملته (.. وهكذا شُجعت العامية، ومُدت بالمال والعتاد، فأقيمت لها الأمسيات، والندوات، والمهرجانات الفضائية، وظهر "ستار شعبي" على طريقة "ستار أكاديمي"..).
ونؤكد للدكتور الفيفي أننا في صفحات "بالمحكي" نقدره ونجله كشخص وأديب له أثره الثقافي في بلادنا، ولا يعني تغيير وجهة ما قال من الصفحات "الثقافية" إلى صفحات "بالمحكي" أي انتقاص من قدره أو وضعه الأكاديمي والاجتماعي، وتهمنا آراؤه القيمة للوصول إلى نقطة اتفاق بين ما يقول هو وبين ما يراه شعراء العامية ومحبوها، ويسعدنا أن نعيد مقالة الدكتور عبد الله الفيفي كما أرسلها بلا إضافات، اعتذارا منا للدكتور وعرفانا منا على قبوله اعتذارنا.
في الجولة الثانية من معركة " اللغة"، أثارت آراء الدكتور عبد الله الفيفي عضو مجلس الشورى ضجة كبيرة في الأوساط المحكية، وذلك بعد أن نشرت "الاقتصادية" في صفحات "بالمحكي" آراء ملتهبة للفيفي، وصف بها الشعر المحكي بالمد الشعبوي الأحمر الذي يهدد اللغة العربية الأم، مؤكدا أن برامج مسابقات الشعر عامل هدم استطاع أن يحصل على تمويل لعمليته، وموضحا أنها حالة طوارئ تنحو إلى الانطواء على الذات باسم التراث الشعبي.
ولعلنا في البداية سنسلط الضوء على رأي أحد أهم رموزنا الأدبية ألا وهو الأستاذ عبد الله بن خميس الأديب المعروف، حيث يؤكد في هذا السياق أهمية "الشعر الشعبي" حين قال في إحدى المناسبات: "لولا ما حفظه هذا الأدب العامي في البلاد طيلة القرون السبعة الماضية لضاع تأريخٌ وانطمست معالم واختلطت أنساب وفقدت الأمة ما يربطها بماضيها وذويها، وهل تصورت أن حكام هذه الجزيرة طيلة القرون السبعة الماضية وقادتها وفرسانها وطبقاتها العالية وذوي الحل والعقد بها يقرضون هذا الشعر ويرونه ويتأثرون به ويثيبون ويعاقبون عليه وهو ديوانهم وأثير مجالسهم، إنه معقلٌ من معاقل الفصحى حفظ عليها ثروة ٌ لا يستهان بها من صميم مادتها كانت لولاه - بعد الله – في عالم الفناء".
وقد يكون الشاعر العربي مظفر النواب أحد المدافعين عن "الشعر العامي" رغم حضوره كشاعر فصيح بشكل مكثف، ولكنه لم يتعامل مع الشعر العامي من خلال منظور الدكتور الفيفي، حيث أجاب في أحد لقاءاته حين سئل عن "الشعر العامي" قائلاً: الاتهامات ضد العامية فيها تجن كبير، فالعامية لهجة لها ارتباط كبير وواضح باللغة العربية الأم، هناك اتهام على أساس أن العامية هي لغة شعوبية وهذا خطأ كبير، فاللهجة العراقية يفهمها كل العراقيين، صحيح أن هناك بعض الاختلافات في المفردات بين الشمال والجنوب أو الغرب والشرق، ولكن من الممكن كتابة قصيدة عامية يفهمها كل الناس. ثمة مفردات إذا كانت غير مفهومة فالمتلقي يبحث عن معناها ويفهمها، قصيدة "الريل وحمد" يقرأها ابن "الموصل" مثل ابن "العمارة" أو "البصرة" بل حتى من خارج العراق، وفي الخليج العربي وليبيا والجزائر، لقد فوجئت أن هناك في الجزائر من يحفظ قصيدة "الريل وحمد" ويستوعب صورها، وكون اللهجات العامية تؤذي الوحدة العربية، فهذا أمر مضحك، العامية قادرة على الإثارة والتحريك أكثر من الفصحى، عندما تكتب قصيدة بالعامية حول أوضاع معينة يعيشها الناس، فإنها تحركهم أكثر إذ يتداولونها ويحفظونها، ونادرا ما نجد الآن من يحفظ قصيدة فصحى حديثة، أو أن تبقى بعض أبياتها بين الناس، إذاً القصيدة العامية ليست شعوبية، وهي أيضاً ليست معادية لوحدة الأمة العربية، بل هي إغناء للشعر، وفيها مادة لا تستحملها قصيدة الفصحى وفي الوقت نفسه من غير الممكن مثلاً، أن تتناول موضوعاً فلسفياً بالعامية.
الشاعر بندر بن محيا له وجهة نظر مهمة في هذا الموضوع عندما طلبنا رأيه، إذ يقول: يبدو أن وجهة النظر التي تقول بهذا القول غير غيورة أكثر على اللغة العربية، ويبدو أن تلك الرؤية نسيت أن المحكية لهجة قبل أن تخرج موزونة ومقفاة، إذ إن المجتمع الخليجي والعربي يتكلم ويعيش بصوته المحكي في حياته اليومية، فهل ثمة هدم هنا؟!، الحديث عن مثل هذه المواضيع غير مجدي نوعا ما، فالمجتمع من الصعوبة بمكان أن ترغمه على أن يترك الشعر الشعبي وهو يعيش تفاصيل وزوايا لهجاته"الشعبية"، خصوصا تلك اللهجات التي صبغت ملامح أصواتنا، أردت أن أصل لنقطة هي: لا يمكن أن يكون الشعر المحكي الخليجي"تحديدا" بلونه وصوره وقربه من الفصحى عامل هدم، إذ إنه يأخذ شكلا وامتدادا من خلال وزنه وقوافيه ومعانيه، فالاهتمام به لا يعني هدما وقتلا للفصحى، بل هو موروث وفن شعبوي قادر على ترتيب أخلاقنا ووعينا بلهجة هي الأقرب وإن لم تكن الأبقى والأفصح، ثم على الأكاديميين أن ينتصروا للشعر الفصيح لا بإلغاء الآخر بل بتبني منابره وشعرائه بدلا من نقد الآخر المبني على قراءة غير دقيقة".
رأي بندر المحيا وافقه كثيرون من الشعراء كزايد الرويس وعارف سرور ومحمد وآخرين، إلا أن المبدع فهد المساعد كان له رأي مغاير في القراءة التي حكم بها الدكتور الفيفي على الشعر العامي، إذ يقول: "أوافق الدكتور الفيفي، فهذا الواقع للأسف"، مشيرا إلى أن حكم الدكتور الفيفي مأخوذ مما يرى ويشاهد من الشعراء الذين يمثلون هذا الأدب المحكي، وزاد: يوجد مبدعون في لعبة كرة القدم في الحواري، لكن عندما تريد الفيفا "على طاري الفيفي" الحكم على مستوى الكرة السعودية، ستنظر لـ11 لاعبا يمثلون منتخبها، لن تبحث عن مستوى الكرة السعودية في حواري بيشة أو القريات، وهنا المسؤولية تقع على لاعبي الحواري المبدعين ليظهروا إبداعهم بأي شكل، حتى لا تظهر أحكام معممة كحكم الدكتور الفيفي على الشعر العامي.
أما خلف صالح الحربي فيقول: أنا كشاعر شعبي ضدّ هذه المسابقة شكلا ومضموناً، لأنّها بهذا الشكل خدمت كل شيء ماعدا الشعر الحقيقي، والذي لا يقبل التجيير لا للفصحى ولا للعاميّة.
أما بالنسبة لتجيير الضرر أيضاً على الفصحى فأنا ضده كذلك، لأنّ اللهجة هي ابنة شرعيّة للأم الفصحى، وليس هناك ما يُهدّد اللغة العربية الفصحى إلا الكتابة بها بشكلٍ سيئ، وهذا ما يجب أن ينتبه له الكثير من المدافعين عنها.