ناصر المنقور.. الحاضر الغائب!
قبل عشرة أشهر أو تزيد، وحينما نعى الناعي الشيخ الجليل عبد المحسن المنقور، رحمه الله، اتصلتُ على منزل أخيه الشيخ ناصر في لندن، وكان هدفي من الاتصال الحصول على رقم الشيخ ناصر في السعودية، على اعتبار أنه سيكون في مقدمة مستقبلي العزاء بأخيه الراحل، وكنتُ أنوي تقديم العزاء له والحديث معه - خلال وجوده في المملكة- حيال حوار صحافي يتناول سيرته العلمية والعملية في الإدارة السعودية. وكم كانت المفاجأة أن الذي كان يتحدث إليّ في ذلك الصباح اللندني البارد، هو الشيخ ناصر نفسه!
بادرته بالعزاء والدعاء بالمغفرة لأخيه الفقيد، فشكر بتواضع الكبار الاتصالَ وأضاف أنه يعاني من نزلة برد، لم يتمكن بسببها من الحضور إلى السعودية، وأن طبيبه الخاص نصحه بالبقاء في لندن، ريثما تتحسن صحته. دعوت له بالشفاء العاجل مؤملاً أن نلتقي على خير، وسنلتقي بإذن الله.
الشيخ ناصر المنقور، أحد أبرز القيادات الإدارية التي أسهمت باقتدار في إدارة العملية التربوية والتعليمية والدبلوماسية خلال أكثر من نصف قرن، ولأنه كان من المُبرزين في هذه المجالات، فقد كان من أشهر الذين تجاهلتهم الصحافة السعودية! فلم تُسلط الأضواء على أدوارهم وجهودهم، وهي أدوار رائدة ومهمة لعبها الشيخ الجليل خلال مسيرته التي ابتدأها منذ عام 1952 بعد أن تخرج في جامعة القاهرة، لينخرط في إرساء دعائم العمل التربوي التعليمي في المنطقة الوسطى، حينما تدرج في العملية التربوية ليتعيّن بعد ذلك مديراً عاماً للتعليم في نجد، ثم تتوّج جهوده في هذا الحقل بتعيينه مديراً لجامعة الملك سعود. وفي عام 1380هـ انضم إلى عضوية مجلس الوزراء بعد تعيينه وزير دولة لشؤون مجلس الوزراء. ومنذ عام 1964 انخرط في السلك الدبلوماسي بعد تعيينه سفيراً للسعودية في اليابان، تنقّل بعدها في عدد من الدول، وكانت أشهر محطاته لندن، التي عيّن فيها سفيراً مع مطلع القرن الهجري الحالي، لمدة 12 عاماً، ليُمضي وقته بعد ذلك ما بين لندن وإسبانيا، التي عشقها وأحبها، وقضى فيها سفيراً أعواماً هي من أرق وأجمل سِني عمره المديد.
حديثي هنا عن الشيخ ناصر المنقور، ليس حديثاً في سيرته ومسيرته، فذلك يحتاج إلى بحث واستقصاء وحديث طويل معه، وحديث آخر عنه مع عدد من الذين زاملوه ورافقوه في مكة المكرمة أثناء الدراسة الثانوية ثم القاهرة ثم في معترك العمل الوظيفي في مختلف مجالاته، الذين هم شواهد سيرته ومسيرته، غير أنّ حديثي هنا هو عمّا قرأته قبل أيام في صحيفة "الجزيرة" عن قيام أبناء حمد المنقور (عبد المحسن، رحمه الله، وسعد وناصر) بإنشاء مركز صحي في مسقط الرأس ومرتع الصبا ومسرح اللهو البريء، مدينة "حوطة سدير"، التي نشأ فيها الأبناء وتلقوا تعليمهم الأولي في كُتَّابها، وعادوا بعد ثمانين عاماً ليسهموا في نهضتها وبنائها وتطويرها، وفاءً وحباً وبراً بها وبأهلها، وليس غريباً عليهم فعلهم هذا، وهم أبناء هذه الأُسرة الكريمة، الضاربة بعمق في تاريخ منطقة سدير، ولم تكن أولى عطاءات هذه الأُسرة ما قدمه الشيخ المؤرخ أحمد بن منقور، المتوفى عام 1125هـ، رحمه الله.
قدّم الأبناء الثلاثة هذا المركز الصحي الخيري بهدوء يليق بالكبار، ضمن منظومة خيرية، وكان المؤسف في الحفل الذي رعاه وزير الصحة عدم حضور الأخوين سعد وناصر، لظروف صحية حالت دون حضورهما! غير أنّ المُثير في مثل هذا المشروع الخيري، هو أن الذين قدموه ليسوا من الأثرياء، فلقد عاشوا حياتهم في وظائف إدارية، في الداخل والخارج، خاصة عبد المحسن وناصر، ورغم مرورهم في طفرة "السبعينيات" إلا أنهم خرجوا منها خروج الزاهدين!
رحم الله عبد المحسن المنقور وحفظ سعداً وناصراً، وشكر لهم سعيهم ووفاءهم .