جدة: غموض وقصص حول عدم تحلل بعض جثث الموتى

جدة: غموض وقصص حول عدم تحلل بعض جثث الموتى

يشهد على عراقة مدينة جدة الموغلة في القدم وجود أكثر من 100 مقبرة منتشرة في أرجائها، بدءاً من مقبرة "أمنا حواء" الشهيرة، إلى سلسلة من المقابر المتداخلة مع النطاق العمراني، والتي باتت غالبيتها معطلة لامتلاء جنباتها وأركانها بالزوّار الدائمين، وأخرى تنتظر أن يشملها قرار الترميم والصيانة، تاركة 13 مقبرة قيد التشغيل, تستقبل سنويا ثلاثة آلاف من الموتى المعروفين ومن مجهولي الهوية.
وسعيا من أمانة مدينة جدة إلى تقديم خدماتها، فإنها لجأت في السنوات الثلاث الأخيرة إلى إسناد الخدمات العامة وإدارة التشغيل إلى القطاع الخاص، الأمر الذي قلص الميزانية ورفع من مستوى الخدمات في إكرام الموتي وذويهم، ويجمع العاملين في هذا القطاع الخيري الطابع، على بقاء الرواسب الاجتماعية السلبية في الابتعاد عن امتهان هذا العمل بين عوامل نفسية متأثرة برهبة الموت ومشاهد أشلاء الجثث، وبين ثقافة العيب والاستهجان الاجتماعي ومحدودية آفاق مستقبلها.
تكشف "الاقتصادية" في استطلاعها عن المقابر أسباب رفض السعوديين العمل في المقابر، وكذلك أسرار عدم تحلل بعض الجثث قياسا بالجثث الأخرى.

القطاع الخاص يتولى مهام التشغيل

ويكشف لـ "الاقتصادية" الدكتور زهير ميمني مدير مؤسسة الغطاء الصحي لتشغيل المقابر، أن مدينة جدة تعد من أكثر المدن امتلاء بالمقابر، حيث يصل عددها إلى 103 مقابر والمنتشرة في أرجاء المدينة والتي تستوعب سنويا ما يقارب ثلاثة آلاف متوفى، إلا أن 13 مقبرة منها فقط التي يتم تشغيلها في الوقت الحالي، نظرا لامتلاء العديد منها. كما أن أمانة جدة حاليا بصدد دراسة فتح أربع مقابر جديدة بمساحات واسعة حيث تبلغ مساحة إحداها 100 ألف متر مربع، كما تحرص الأمانة على انتقاء المواقع المرتفعة من المدينة حتى لا تتعرض لصعود المياه الجوفية ومياه البحر، وبشكل عام فإن عمق ثلاثة أمتار للقبر في الأماكن المرتفعة لا يجعل القبر عرضة للمياه.
وأضاف ميمني أن الأمانة تسعى بشكل دائم إلى تطوير خدمات المقابر عبر إدارة تجهيز الموتى والتي أوكلت مهام التشغيل إلى القطاع الخاص لمؤسسة الغطاء الصحي التي تقوم بتشغيل عشر مقابر خلال السنوات الثلاث الماضية.
وقال الميمني "قمنا برفع وتيرة العمل عبر إجراء التحسينات وتوسيع الدوام من قبل صلاة الفجر إلى العاشرة مساء، ففي السابق كان يقتصر الدوام الرسمي على سبع ساعات من 7:30 صباحا إلى 2:30 ظهرا، إضافة إلى إلغاء مفهوم البقشيش وإبعاد أصحاب النفوس الضعيفة في استغلال أهالي المتوفى، وعملنا على تحويلها إلى مقابر نموذجية من حيث المعاملة الإنسانية مع المتوفى، وفي مستوى النظافة والاستقبال ومعاملة ذوي المتوفين، وقد يظهر ذلك جليا في مقبرة الفيصلية التي انعكست على قدرتها في استقبالها أعداد الموتى بنسبة 70 في المائة من مقابر مدينة جدة، والباقي 30 في المائة. وبشكل عام فإن الأهالي باتوا يفضلون المقابر الأقرب لمقر سكنهم، كما تواترت عادات بعض الأسر على دفن ذويهم في المقابر التي دفنت فيها عائلاتهم.

مكة المكرّمة تسجل أعلى معدل للوفيات

ويشير الميمني إلى أن خطوة الأمانة بمشاركة القطاع الخاص قد قلصت المصروفات التشغيلية للمقابر إلى حد كبير, وقدمت الخدمة بجودة أفضل دون أن تفرض أي رسوم على ذوي المتوفى. وتتحمل الأمانة دفع مبالغ بسيطة عن كل متوفى، مبينا أن تشغيل هذا العمل خيري لا علاقة لها بالنشاط التجاري، ولا تتقاضى منه المؤسسة المشغلة أي أرباح، بل يقوم على دعم الأمانة وتبرعات المحسنين ودعم رجال الأعمال في صندوق "الدارين" والذي يرأسه الدكتور محمد عبده يماني.
وأدى هذا النجاح إلى توسع (الغطاء الصحي) في تشغيل مقابر مكة المكرمة في مقبرتي المعلا والشرائع، ويضيف الميمني "التزمنا بعقود مع مختلف القنصليات والسفارات والخطوط السعودية والطيران المدني في حالة حدوث كوارث في المطارات أو الحوادث والقصاص، ونقوم سنويا بإرسال أكثر من 500 حالة إلى خارج المملكة، ناهيك عن فترة الحج التي قد تتضاعف فيها أعداد المتوفين والكثير من أهالي المتوفين يفضلون دفن ذويهم خارج المملكة، ونتمكن من تقديم الخدمة لأكثر من 15 ألف متوفى.
وبيّن الميمني أنهم بصدد توقيع عقود مع أمانتي الطائف والمدينة المنورة، كما أن العقود الجديدة ستعمل وفق خطة تعيين حراس دائمين للمقابر وتركيب أجهزة مراقبة وكاميرات تعمل بصفة مستمرة، ولربما نواجه صعوبات في قبول الحرّاس الإقامة الدائمة في المقابر بحكم شدة وقع العمل على النفس البشرية.
وقال ميمني إن الشق الآخر من العمل يتجلى في نقل الموتى إلى المقابر, وقد راعينا تجهيز سيارات كبيرة تتسع للمتوفى وعدد من أقاربه الذين يفضلون أطول وقت ممكن مع المتوفى، مراعاة للجانب الإنساني في إصابتهم بالصدمة وفقدان التوازن، وتحقيقاً لرغباتهم في نقل الجثمان إلى المدينة المنورة أو مكة المكرمة أو أي مكان آخر، وتسهيل إجراءات الدفن للأجانب في الخارج خلال يوم إلى يومين.

العمل بقرب الموتى مرفوض

وعن امتهان الشباب السعودي لهذا النوع من الأعمال، أوضح ميمني أن الإقبال ضعيف جدا وقد يكون نادرا لأسباب نفسية أو اجتماعية، وقد يقتصر على الملتزمين منهم الذين يبادرون بالعمل كمتطوعين طلبا للأجر والمثوبة، فهذا العمل لا يقتصر على تجهيز الميت، بل يتعرض العاملون إلى مناظر قاسية جدا من حيث رؤية أشلاء جثث وأخرى متفحمة ومتحللة أحيانا، والنفس البشرية تتفاوت شدة تحملها من شخص إلى آخر. وأذكر أن أحد الشباب أصيب بصدمة قوية عندما فتح الكيس البلاستيكي ليفاجأ بالجثة من دون رأس، إثر تنفيذ حكم القصاص في المتوفى، فقام بترك العمل مباشرة, ولم تفلح جهودنا مع كثير من الشباب الذي يتسرّب، رغم أننا قمنا بتجهيز أكياس بلاستيكية قوية تحافظ على تماسك الجثة وتستر عوراتها ولا تعرض العاملين وذوي المتوفى إلى الهلع من منظر أشلاء الجثة، مبينا أن الإقبال بات يقتصر حاليا على عدد من الجنسيات العربية والآسيوية التي تعودت إلى حد ما على هذا العمل، إلا أننا دائما نستقبل اتصالات من قبل الأهالي المتطوعين من أصحاب المراكز الاجتماعية والعلمية المرموقة ومن الشباب الذين يعرضون خدماتهم في أوقات فراغهم دون مقابل طلبا للمثوبة. وقد شهدنا عدة حالات عديدة لأشخاص يرفضون السلام باليد على العاملين في هذا القطاع. وقد صادفنا من يرفض تأجيرنا المحلات التجارية لإقامة مكاتب لخدمات الموتى وقام بإنهاء المقابلة هاربا.

جثث مجهولة وقبور محجوزة

وقال ميمني إنه لا توجد معوقات حقيقية في هذا القطاع، فالمملكة العربية السعودية تعمل جاهدا على توفير الخدمات كافة، وتضمن المعاملة الإنسانية في إكرام المتوفين, وإن كانوا من مجهولي الهوية ومن المخالفين لأنظمة الإقامة، حيث نواجه سنويا أكثر من 50 حالة لمجهولين، يقوم البعض بوضع جثمانهم على أبواب المستشفيات أو التبليغ عنهم، وتقوم الجهات المختصة بتصوير الجثة وتعميم وصفها على الجهات كافة وفحص الجثة من قبل الطب الشرعي في حالات الشبهة الجنائية، ومن ثم دفنها ضمن الأصول. وفي حالة ظهور ذوي الفقيد أو اكتشاف دفن جثة عن طريق الخطأ, فلا يمكن فتح القبر نهائيا حفاظا على حرمات الأموات، إلا بفتوى هيئة شرعية للضرورة القصوى.
الجانب الآخر من الإشكاليات التي قد نتعرض لها, عدم قدرتنا على تحقيق رغبات الأهالي الذين قد يعارضون فتح قبور ذويهم بعد عامين من تحلل الجثة لنتمكن من إنزال أموات آخرين ضمن الطاقة الاستيعابية للمقبرة، وذلك يعود إلى وصية الفقيد أو لرغبة العائلة في دفن الإخوة أو الجد في المقبرة ذاتها، مما يدعو البعض منهم إلى عرض مبالغ مالية في سبيل تحقيق رغباته، إلا أننا وبعد نقاش ونصح نتمكن من إقناعه بالعدول عن فكرته.

جثث لم تأكلها الأرض

وحول ما يثار من قصص حول وجود جثث لم يطلها التحلل بعد سنوات من دفنها، أوضح ميمني أنه لم يصادف مثل هذه الحالات، إلا أنه لربما يرجعها إلى سببين أولهما - بحسب قوله - كرامات وهبها الله للصالحين وفقا لما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة. وثانيها، إلى أسباب علمية في الظروف البيئية بالقبر، وغالبا ما تعود لحقن هذه الجثث بمادة "الفورماليك" المخصصة لحفظ الجثث في الثلاجات, خاصة للجثث القادمة من خارج المملكة، آو من أثر نوعية العقاقير التي يستخدمها الإنسان قبل وفاته، وأن هذا الأمر يكتنفه الغموض وتنسج حوله الكثير من الأقاويل والقصص التي تتواتر جيلاً بعد جيل.

عامل الثلاجة: "لا حياة لمن تنادي"

وبيّن أحد العاملين في هذا القطاع لـ "الاقتصادية", أنه صادف موظفاً خمسينياً قضى 20 عاما عاملا في ثلاجة الموتى في أحد المستشفيات مما أكسبه مناعة نادرة ضد رهبة الموت وهيبته، ولم يعد يشعر برائحة المطهرات في الثلاجة، وأن وحدته قد دعته إلى إخراج الميت من الثلاجة ومخاطبته عن همومه العائلية وآماله ويسرد عليه القصص، بل وصل به الحد إلى أن يتناول طعام الإفطار في مقر عمله وحفظ ما تبقى من الطعام في الثلاجة مع الموتى إلى أن يحين موعد الغداء ليعاود إخراج الطعام لتناوله.

الأكثر قراءة