خالد قماش: أنا متطرف ذوقيا ومطلوب قلبيا.. والمتنبى أكبر "شحات" عرفه العرب
لم يكن خالد قمّاش الشاعر المسكون بوجع الشوارع غائبا عن وعي الذائقة بعد أن أسكن فيها مفرداته، رغم اختفائه الذي خلف أكثر من علامة استفهام.. "بالمحكي" التقت قمّاش في حوار نتمنى ألَّا يكون تقليديا، ونتمنى أكثر أن يكون وجبة قراءة لذيذة مع شاعر لا يمكن معه إلا الاستماع إلى ما يكتب وما يقول!
* طالت غيبتك على منتظري غنائم شعرك، فماذا تقول لهم عن ألم الغياب وأمل الحضور؟
- بين ألم الغياب وأمل الحضور جرح شاسع وفرح ناصع، قصائد تتوضأ بماء الوجع لتتسنبل أناشيد مفرحة، ومواويل ألقة.. يا صديقي لدي قناعة متجذرة أحاول جاهدا المحافظة عليها وهي أن الغياب المثمر أفضل بكثير من تكريس الحضور الممل وتكرار ذاتك بشكل مزعج، أنا أعيش حالة من الرضا الذاتي والتصالح الداخلي مع نفسي ومع الآخرين، ولكني في الآونة الأخيرة لجأت إلى العزلة التي أزعم أنها تؤهلني لقراءة المشهد الشعري العام عن بعد، واستعادة صفاء ذهني وشفافية روحي من جهة أخرى، بشكل أو بآخر أنا متواجد بين الغيمة والأخرى في فضاءات الإنترنت المشرقة بشموس الحرية وغوايات الأصدقاء المبهجين.
* كيف ترى الساحة الشعرية حاليا؟ البعض يرى أن ابتعادك كان موقفا مسبقا حيالها!
- المشهد الأدبي بشكل عام متردٍ، وأتصوّر أن هذا انعكاس لتردي الأوضاع العربية على الأصعدة كافة (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا)، وأنا أتحدث هنا عن المبدعين الحقيقيين الذين يمثلون الزمن الراهن الحقيقي للشعر والقصة والرواية، وليس عن الذين يمارسون الدجل في كل قناة فتحت بثها التجريبي على أصوات ناعقة لتخريب أذواق بائسة! نعم هناك موجة من الإحباط تكاد تسيطر على الذائقة الراقية بشكل مؤلم، وأنا أعتقد أني بدأت أشعر بفقدان القدرة على استجماع دفء أصابعي وسط هذا الصقيع، وعلى لملمة ما تبقى في القلب من أوراق متناثرة تحت هذه العواصف الجامحة.. هناك تواطؤ على سحق الجمال تحت عربات الإعلام السخيف بشتى صوره، ومع كل هذه المؤشرات المحبطة نظل نردد بكل جسارة: "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"!
* الحيز الفضائي المحكي.. ألا ترى أنه فتح المجال لعدة تجارب تستسهل الكتابة دون نضج شعري؟ ثم ما رأيك ببرنامج شاعر المليون؟
- على مستوى الشبكة العنكبوتية، أرى أن الإنترنت هيأ للعديد من الأسماء الجميلة أفقاً فاتنا لنشر عطاءات شعرية وأدبية رائعة، بعيدا عن وصاية بعض المحررين والصحافيين المتمترسين خلف سلطة الرقيب، أصوات غرّدت شاهقا بمنأى عن ممارسة الأستاذية المتورّمة في العديد من مطبوعاتنا المحلية، في ذات الوقت أخرج هذا الفضاء العنكبوتي العديد من الفئران من جحورها لممارسة التسطيح الكتابي، وبث شتائمها ونعوتها الرجعية خلف أسماء "مسعورة" مستعارة.
بالنسبة لبرنامج شاعر المليون، أولا أنا غير حريص على متابعة برامج تكرّس البلادة الشعرية وتعزّز في دواخلنا الطائفية القبلية في الوقت الذي نحلم فيه ببناء مجتمع مدني! ولكن صادف مرتين أن شاهدت هذا البرنامج المخجل، وأقول المخجل لأني أتواصل وألتقي مع كتاب وشعراء وأكاديميين لهم ثقلهم الأدبي في المجتمع وينظر بعضهم لنا كشعراء من خلال هذا البرنامج! تخيّل أنهم يرون كل شاعر يكتب بالمحكي أو العامية أنه نسخة مكررة من "صح لسانك" و"قصيدتك جزلة" و"فالك المليون"!
الشعر الحقيقي لم يكن يوما وسيلة لمص دماء الناس بهذه الفظاعة أو التسوّل بهذه الوضاعة، إنها المتاجرة الرخيصة بالشعر والشعراء، هذا إذا افترضنا جدلا أن هناك شعراء! ومع احترامي للمسعودي والدكتور غسان اللذين تورطا تحت إغراء المادة والعزف على وتر النفاق الأدبي الممجوج والتنظير المضحك، إلا أن البرنامج نجح تجاريا وفشل شعريا! صحيح أن المتنبي كان أكبر "شحّات" على بوابات السلاطين، ولكن أبا الطيب تشفع له درره الشعرية وإبداعاته التي إلى الآن لا تزال تكتب فيها الدراسات النقدية.
يا سيدي لا تضغط على الجرح بقوة .. أنا أجزم أن هناك أصواتا مضيئة أكبر من أن يحتويها "مايكرفون" شاعر المليون!
* خالد تكتب بالفصحى والعامي، فكيف بدت لك التجربتان؟ وكيف ترى الجدل الأخير حول قضية العامية؟
- أنا أكتب بشكل مجرد بعيدا عن تأطيرات اللغة، يحلو لي التجريب، أحاول أن أقطف من الحرف روعته ومن الجرح لوعته.. يروق لي الركض في مضمار اللغة البكر، حيث تورق الكلمة المجنحة، والمفردة الحرّة المعجونة بالوجع الشفيف... وعلى فكرة فمسألة التصنيفات الساذجة (شاعر فصحى وشاعر شعبي) لا توجد سوى لدينا في دول الخليج! ففي مصر مثلا أو دول الشام أو المغرب العربي يصنفون الشاعر على ضوء قيمته الأدبية وعطائه الشعري ويحترمون نتاجه بشكله عام، فقيمة الأبنودي لا تقل جمالا عن إبراهيم ناجي مثلا في مصر، وحضور سعيد عقل لا يقل بهاءً عن حضور طلال حيدر أو فليمون وهبي مثلا في لبنان، والنواب والجواهري في منزلة واحدة في العراق العظيم! إذا مسألة التصنيف السخيف تشكل حضورا طاغيا في المجتمعات الطبقية والمتأخرة حضاريا وثقافيا!
على الصعيد الشخصي - مع أن لي محاولات - أجد صعوبة في كتابة الفصحى لسبب بسيط، أني أضع في مخيلتي درويش ودنقل والمتنبي والثبيتي وقائمة طويلة من المحلقين شعرا فاتنا.. وأحاول الهرب من سطوتهم الشعرية وسلطتهم الذوقية حتى أكتب شيئا خارج أجوائهم، بشكل أوضح أحلم بكتابة قصيدة استثنائية مختلفة عن كل تلك السياقات الشعرية المذهلة، وبعيدا عن ظلال تلك القامات الفارعة، حتى أصل إلى حالة الرضا الشعري عن قصيدة فصحوية وهذا مستبعد إن لم يكن مستحيلا! لكن تظل نصيحة نابليون لأحد جنوده ماثلة أمامي حينما قال له: "لا تقل لا أقدر ولكن قل سأحاول". أما التقليديون الذين يملأون ملاحقنا الثقافية بقصائدهم المتكلّسة فهم "ناظمون" وليسوا "شعراء" مع احترامي لشعورهم ومشاعرهم، هناك مقولة لأدونيس أحفظها عن ظهر "حب" وأحاول تطبيقها على كل عمل كتابي أشرع في كتابته، تقول: "لكي تكون مبدعا عليك أن تكتب لأناس لم يولدوا بعد، لكي يقلدوك بعد وفاتك"! نعم .. القصيدة التي لا تدمي أصابع كاتبها مصابة بفقر الدم، هكذا قال الراحل العظيم نزار قباني. وهذه المقولات هي التي زادت نسبة التطرف الفني لدي.. نعم أعترف أني متطرف ذوقيا وهذا ما جعلني مطلوب "قلبيا" لنخبة من القراء والمتابعين! أما عن موقف بعض المثقفين "المسقفين" فهو موقف متناقض مخزٍ، لأنهم يحاربونه في الصحف والمنابر الأدبية ويتلذذون بسماعه في المقاهي والجلسات الخاصة! تصوّر أن أحدهم - وهو رئيس ناد أدبي شهير - يصف الشعر الشعبي أنه نموذج لتشرذم الأمة، مشددا على رفضه الاعتراف بإبداعاته ومعبرا عن استيائه من استضافة المنابر الإعلامية في الأمسيات الشعرية لهذا اللون الشعري، وفجأة يحضر أمسية شعرية أقيمت في منطقته ضمن مهرجان القصيم الصيفي ويثني على الشاعر ويشيد بالأمسية ويقلب قناعاته رأسا على عقب – فقط – لأن الشاعر أمير! أرأيت أكثر تناقضا وتشرذما من هذا؟!
* ارتبط توقيعك دائما بمفردة الألم والوجع، هل ترسخ العلاقة الأزلية بين الشعر والمعاناة؟
- الشعر يرتبط بكل الأشياء الجميلة الحميمة كما يرتبط بكل الأشياء الحزينة والمؤلمة، هو كذلك سيدي "خليط من الهواء والنار"، ولكن الألم هنا له قيمة إنسانية والحزن يتشكّل في دواخلنا بشكل إيجابي ومثمر وليس بشكل سلبي، كل مشاعرنا وانفعالاتنا لو استثمرناها بشكل إايجابي أعتقد أننا سننتج أدباً خلاقا، الحزن أحيانا يا صديقي يعيد ترتيب إنسانيتنا في دواخلنا من جديد، "يزداد الإنسان عظمة كلما ازداد ألما" هكذا قال "جان جاك روسو"! وكلما زاد الإنسان هما زاد وعيا، والهم هنا أيضا مؤشر إيجابي بمفهومه تتضاءل الأنا، ويتسامق الهم الجماعي نحو كتابة مكتنزة بنبض الآخر ومعاناة البسطاء .
* ظاهرة غياب انعزال الأسماء الشعرية في الفترة الأخيرة، هل هو تعفف من وضعها الحالي؟
- هناك أسماء أفلست وأخرى استهلكت، وثالثة انكفأت حفاظا على ماء وجه الشعر واحتراما لتأريخها الجميل، يا هيثم هذا الزمن لم يعد زمن المهووسين بالجمال والطرب الأصيل و القصيدة الأخاذة، إنه زمن نانسي عجرم وحامد زيد وجواد العلي، زمن اللاهثين خلف الأضواء والتفاهة وتصويت المراهقين والمراهقات!
* يقال أن الحداثة نجحت في الشعر المحكي، كيف تنظر إلى حركة الشعر الجديد؟
- الحداثة بمفهومها الأدبي حركة ما زالت تراوح مكانها، بين مد "المتنورين" وجزر "المتحجرين"، الحداثة في الشعر الفصيح مشروع فكري لم ينضج بعد في مجتمعاتنا العربية على الرغم من وجود تجارب فردية ناجحة، ولكن كمنظومة أدبية لم يتسن لها التماسك أمام هيمنة الفكر الأيديولوجي المترسّب في أعماق الذهنية العربية، ساعد على ذلك عدم تقبل المجتمع للتحضّر والتحرّر من عقد الماضي، حيث لا يزال الإنسان العربي كائنا ماضويا يجترّ التراث بشكل نمطي ـ كربوني، بينما الآخر مستقبلي! مع أن المدارس الأدبية الغربية تجاوزت مرحلة ما بعد الحداثة، هذا وضع الشعر الفصيح فما بالك بالشعر المحكي، الذي لم ينعتق بعد من قيود الشفاهي وثقافة الصراخ والمهرجين على منابر الأمسيات! ولكن هذا لا يلغي وجود حركة تجريبية رائدة في الجزيرة العربية بدأت ببدر بن عبد المحسن واستمرت تمطر غيومها في المنطقة الغربية نهاية الثمانينات بداية التسعينات الميلادية بإرهاصات رائعة أثمرت عن إنتاج نصوص شعرية مختلفة شكلا ومضمونا، مطعمة بأسماء بعضها تماهت في تحولات الزمن الاستهلاكي وأخرى انتبذت مكاناً قصياً لائذةً بالصمت المشرف والغياب الأكثر حضورا في ذاكرة الضوء.
* نعلم افتتانك بالقراءة، حدثنا عن القراءة في غير الشعر وأثرها في الشاعر
- عندما جاء رجل إلى أبي تمام وقال له أريد أن أكون شاعرا، فطلب منه أبو تمام أن يحفظ ألف بيت من الشعر، ولما عاد إليه بعد فترة طلب منه أن ينساها! وعلى اختلافي حول قضية "لكي تكون شاعرا" لأن الشعر ليس مهنة أو حرفة أو صنعة يستطيع أي شخص أن يتقنها بوصفة سحرية هكذا من جدنا الأعظم "أبي تمام"، ولكن الشاهد في هذا هو تكوين ثراء لغوي خصب، وتصورات غزيرة يستطيع الشاعر أن يختمرها في اللاوعي، ليستحضرها بطريقته الخاصة وتفرده الكتابي لينجز قصيدته بعيدا عن الالتباس الشعري بأصوات مخرت ذائقته أو استوطنت ذاكرته! وهذا هو تأثير القراءة الحرة، حيث المتعة الموغلة في عوالم الآخرين، وأنا إضافة إلى قراءتي الشعرية لكل ما يثير دهشتي من زمن "قفا نبك" إلى "زمان الصمت"، اقرأ الروايات الحديثة وما يقع تحت يدي من مترجمات بالذات في الأدب الروسي، وبشكل عام قراءتي متنوعة وليس لدي "كونترول" على مسألة الاختيارات، مع أني في الآونة الأخيرة بدأ نشاطي القرائي يخبو وأخشى الانطفاء!
* هل يراهن خالد قمّاش على أسماء معاصرة بعينها ستفرض تجربتها؟
- مشكلتي ذاكرتي مثقوبة "مثل هذا الشارع الممتد لا ينسى ولا يذكر أحد"! فاعذرني في الإجابة عن هذه الأسئلة المتورّطة في حسن ظنك وظن حسنك، ولكن تأكد أن التأريخ كفيل بكنس كل البلداء وحفظ قصائد العظماء!
* كلمة أخيرة:
- أشكرك وأشكر العاملين على صفحة "بالمحكي" التي أعادت النفـَس الحقيقي والصادق لمن يؤمل أو يتأمل أن هناك ساحة شعرية فكرية محكية تحترم عقلية القارئ الجميل، والتي أثبتت أن الصحافة المقروءة لا تحمل فقط غواية الشعر ونزق الحبر بل تحمل العطر أيضاً.