التعاقد الإلكتروني في ضوء نظام التعاملات الإلكترونية لعام 2007
سمحت التقنيات الحديثة للاتصالات والمعلوماتية بزيادة التعاقد الإلكتروني، فقد غدت شبكة الإنترنت اليوم الميدان الأوسع للنشاطات الإنسانية وتحوّلت إلى سوق عالمية باهرة لإبرام العقود والصفقات التجارية. ويطلق على تلك الممارسات مصطلح التجارة الإلكترونية، ومما لا شك فيه أن ظهور التعاقد الإلكتروني قد أوجد ثورة في مجال التجارة وغيّر من معالم العلاقة بين التجار والمستهلكين وبين الشركات والمؤسسات بعضها بعضا، بحيث لم تعد المسافات الشاسعة مانعة من التعاقد بين أطراف من بقاع ودول شتى ربما لا تسنح لهم الفرصة برؤية أو معرفة بعضهم بعضا. وبالمحصلة أسهم التعاقد الإلكتروني في تكريس مفهوم العولمة، فأصبحت الشركات العالمية الكبرى غير محتاجة إلى فروع لها في دول العالم لتسويق تجارتها، وأصبح التاجر وحيثما كان موجودا، غير مقيد بالسوق المحلية، فالعالم كله سوق حر له عبر الإنترنت، وهذا كله أدى إلى إيجاد المنافسة القوية التي انعكست إيجابا على حركة الاقتصاد الوطني والعالمي.
لذلك كان من الضروري إيجاد وسائل قانونية تضمن سلامة التعامل الإلكتروني وتواكب الإمكانات الهائلة التي توفرها هذه التقنيات للتعاقد دون سندات ورقية موقعة بخط اليد، كما جرت عليه العادة في التعاقد التقليدي، لأجل ذلك فقد صدر عن لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية القانون النموذجي للتجارة الإلكترونية لعام 1996، ولقد وضع هذا القانون كنموذج للدول لأجل تبنيه في قوانينها المحلية في مجال العلاقات التجارية التي تتضمن استخدام الإنترنت والوسائل المشابهة، ومن الملاحظ أن نظام التعاملات الإلكترونية السعودي الذي تم إقراره من مجلس الوزراء بتاريخ السابع من ربيع الأول 1428هـ الموافق 27 آذار (مارس) 2007 قد تأثر بشكل واضح وملموس بالقانون النموذجي للتجارة الإلكترونية، مع أخذ استبعاده لبعض الأحكام التي لا تتناسب مع الأنظمة السعودية في الاعتبار، وهذا اتجاه إيجابي لما يلي:
1 – إن جميع الدول التي وضعت قوانين تنظم التعاملات الإلكترونية قد تبنت تقريبا ذات الأحكام الواردة في القانون النموذجي.
2 – إن وجود قواعد قانونية متماثلة تحكم تعاملات التجارة الإلكترونية سيسهم بكل تأكيد في تشجيع التجارة الدولية وزيادة التعاقد عبر الإنترنت بين مختلف الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين.
3 – إن تبني قواعد القانون النموذجي من الدول سيؤدي إلى معرفة الأفراد المتعاقدين المسبقة بالقانون الذي سيطبق على علاقاتهم عند النزاع، وبالتالي يتجنب كل طرف أن يطبق عليه قانون غريب عنه لا يعلم بمضمون قواعده.
ويلاحظ بالتدقيق في نصوص نظام التعاملات الإلكترونية أنه خصص المواد (10 – 13) منه لبيان الأحكام الخاصة بآلية التعاقد الإلكتروني. وقد تبيّن أن القانون الذي يحكم التعاقد الإلكتروني هو ذاته الذي يحكم التعاقد التقليدي عموما وهو قانون الإرادة، وأنه من غير اليسير تحديد هل هو عقد بين حاضرين أو بين غائبين لصعوبة انطوائه تحت إحداهما بشكل مطلق، فقد نصت المادة (10/1) من نظام التعاملات الإلكترونية على أنه "يجوز التعبير عن الإيجاب والقبول في العقود بواسطة التعامل الإلكتروني، ويُعد العقد صحيحا وقابلا للتنفيذ متى تم وفقا لأحكام هذا النظام"، ونصت المادة (11/1) من ذات النظام على أنه "يجوز أن يتم التعاقد من خلال منظومة بيانات إلكترونية آلية أو مباشرة بين منظومتي بيانات إلكترونية أو أكثر تكون معدة ومبرمجة مسبقا....".
وتكمن أهمية هذين النصين في أنهما يؤكدان أنه لا يوجد ما يمنع من التعبير عن الإرادة عن طريق الإنترنت أو أي وسيلة مشابهة بتبادل الإيجاب والقبول بين المنتج أو المزود والمستهلك، وذلك على اعتبار أن العقود التي تعقد عبر الإنترنت لا تختلف عن مثيلاتها التقليدية إلا من حيث الصورة والوسيلة المستخدمة للتعبير (البريد الإلكتروني، الويب)، ففي التعاقد الإلكتروني، فإن الصورة التي تبرز للتعبير عن الإرادة هي الكتابة الإلكترونية، وهذا يعني بالتأكيد أن تكون هذه الإرادة صريحة وليست ضمنية، ولعل ما جاء في المادتين (12، 13) من نظام التعاملات على قدر كبير من الأهمية، إذ إنه يؤكد أن القوة القانونية لا تلحق فقط بالإيجاب والقبول (انعقاد العقد الإلكتروني)، بل تمتد لتشمل كافة المراسلات والبيانات، وأي تعبير آخر عن الإرادة التي تتعلق بتنفيذ العقد، فكل تعبير عن الإرادة يصدر بوسيلة إلكترونية ويتعلق بتنفيذ العقد يعتبر صحيحا مرتبا لآثاره القانونية.
ولا شك أن رجال القانون بمختلف فئاتهم معنيون بهذا النظام، لما له من تأثير في ممارساتهم المهنية، وذلك بمواجهة ما قد يصاحب هذا التطور من تغيرات في أسلوب التعامل القانوني، وبخاصة التعاقد وإعطاء الرأي القانوني في مجال التجارة الإلكترونية، وبالرغم من أهمية نظام التعاملات الإلكترونية في تطوير حركة الاقتصاد، إلا أن هناك العديد من الاقتراحات التي يمكن من خلالها تلافي أي قصور في مجال التنظيم القانوني للتعاقد الإلكتروني يتمثل أهمها فيما يلي:
1 – لم يتناول نظام التعاملات الإلكترونية بعض المسائل المهمة المتعلقة بالتعاقد الإلكتروني مثل: تنظيم دور الشركات التي توفر الحماية المناسبة للمعلومات وشركات الوساطة التي تلعب دورا كبيرا في إبرام التعاقدات الإلكترونية، لذلك يُقترح تلافي هذا النقص ليكون تناول التعاقد الإلكتروني في نظام التعاملات الإلكترونية كاملا ومنسجما مع التطورات السريعة التي يشهدها عصرنا الحالي، ولا سيما أن توفير الأمن القانوني للتعاقدات الإلكترونية يعد مطلبا ضروريا لتشجيع التجار على استعمال وسائل إلكترونية في التعاقد، ما يعني تعاملات أبسط وأسرع وتكلفة أقل.
2 – لم يعالج نظام التعاملات الإلكترونية بأحكام واضحة المعالم مسألة زمان ومكان انعقاد التعامل الإلكتروني بصورة مباشرة، فقد تركها عرضة للاجتهاد والتحليل، الأمر الذي من شأنه أن ينعكس سلبا على قرارات المحاكم واللجان التي ستتولى تطبيق أحكام النظام، لذلك يُقترح تلافي هذا القصور.
3 – تقصي جميع الأنظمة النافذة ورصدها، ومن ثم يصار إلى تعديلها بغية التوصل إلى صياغة محكمة للأنظمة ذات الصلة بنظام التعاملات الإلكترونية بشكل خاص وبالتجارة الإلكترونية بشكل عام.
4 – إصدار نظام تقني رقابي على شبكة المعلوماتية لتوفير الحماية لأي تبادل أو تراسل أو تعاقد بوسيلة إلكترونية.
وبكلمة موجزة يمكن القول إنه إذا كانت وسيلة التعاقد القانوني وفقا للفكر التقليدي لم يكن يلقى لها بال، حيث كانت دائما تتم في صورة مادية ورقية، فإن التعاقدات الإلكترونية وما أوردته من وسائل غير مادية يتم من خلالها تبادل الرسائل والبيانات التي يتم بها إبرام العقد وتنفيذها، كان لها بالغ الأثر في ضرورة إعادة النظر في القواعد التقليدية التي تحكم الالتزامات التعاقدية كي تنسجم مع هذا الوسط الجديد غير المادي.
محام ومستشار قانوني