عساكر الصحافة الشعبية

عساكر الصحافة الشعبية

على نقيض الصورة التي يبدو فيها العسكري وهو يتقلد سلاحه ولباسه مشدودا على قوامٍ متماسكٍ غير متهدل، وحدة الذكاء المعروفة عنه وروح المغامرة والقدرة على اتخاذ أجرأ القرارات في أكثر الأوقات صعوبة، تظهر صورة أخرى معاكسة لهذه الصورة عندما يعمل العسكري في الصحافة وخصوصاً الشعبية منها، ففي الصحافة الشعبية يتم توظيف العسكري لأنه "وسيع وجه" وجاهز تماماً لتلقي الأوامر وتنفيذها بطاعةٍ عمياء، ولديه القدرة التامة على البقاء لساعات طويلة تحت حرارة شمس الرياض ورطوبة الخبر ولفح شتاء أبها انتظاراً لرجلٍ مهم سيمرّ بجانبه ليقوم بالتقاط صورة سريعة وفبركة حوار طويل بعدها، لديه أيضاً قدرة خارقة على تسلق الأسوار أياً كانت تحصينها ولديه القابلية التامة لحضور المناسبات الشعبية التراثية تحت أية شمس وفوق أية صحراء من أجل أن يجد الفرصة المناسبة لإجراء تحقيقات مفبركة مع أبناء عمومته وأصدقائه وإظهار صورهم في صحيفته، هو لا يفعل كل هذه الأمور لأسباب مادية إطلاقاً، فالكثير منهم ضحى بعمله العسكري ذي الراتب المجزي والأمان الوظيفي ليعمل في مجال يفتح للفقر أبواباً ولسد الرمق نافذة، لكنه يبحث عن العمل في الصحافة ليتقي نظرات الازدراء التي تكسر روحه حين يعترف بأنه يعمل في المجال العسكري، وقلّة منهم تبحث عن الضوء الذي يتوهمون أن الصحافة تحققه لمنسوبيها، ولأن الصحافة الشعبية بابٌ يشبه أبواب أساطير الكرم في الحكايات الشعبية فقد ظل هذا الباب مفتوحاً حتى ولجه العساكر بكل يسر وسهولة، والسبب الأخير والمهم في هذه الإشكالية يكمن في ظاهرة "الإعلام الخاص" وامتلاك الكثير من محدودي الثقافة لصحف ومجلات وقنوات فضائية سمحت لهم بممارسة الإعلام بطريقتهم الخاصة، من هنا انقسم العمل الصحفي في الصحافة الشعبية إلى قسمين لا ثالث لهما، قسم مكتبي وهو القسم الذي ينعم به صاحب الشهادة الجامعية الذي يجب أن يبقى تحت سقفٍ بارد صيفاً دافئ شتاءً، وقسم ميداني وهو القسم الذي وَجد من خلاله العسكري فرصة العمر لدخول الصحافة، ونسي "صاحب المطبوعة" أو تناسى أو هو لا يعلم أن العمل الصحفي عمل إبداعي بحت لا دخل للشهادة الجامعية ولا الصفات الشخصية به، فالثقافة والقدرة على الابتكار هي الركيزة الحقيقية للنجاح، وحين يمتلك العسكري الثقافة المطلوبة فهو أفضل وبكثير من صاحب الشهادة الجامعية الذي لا يملك الرصيد المعرفي ولا القدرة على إنجاز عمل إبداعي غير مسبوق، لذلك بقيت الأمور هكذا: صحفي جامعي وصحفي عسكري يركضون خلف خبر باهت ونجم لا يلمع منه سوى صورة أعيد التقاطها عشرات المرات.

ويا رب يفهموا

الأكثر قراءة