الأربعاء, 2 أَبْريل 2025 | 3 شَوّال 1446


في "نون الرعاة" للشاعر السوري خلف الخلف (1 ـ 2)

على حافة النص:
تقع مجموعة " نون الرعاة " الصادرة عن دار الرافدي في أثينا في 93 صفحة من الحجم الصغير، وتضم ستة نصوص طويلة هي:
* الملعون (حلب 1989)
* جمل غيدا (حلب 1991)
* مروه (حلب 1993)
* الغريب الغريب: ماتناثر من سيرة الهجر (الرياض 1994)
* وحيدا وحافلا بالسواد (الرياض 1996)
* أحفاد الريح (حلب 1999)
في البدء:
لعل الزمن الذي مرت به هذه المجموعة كنصوص (قبل أن تجمع بين دفتي كتاب) كما تخبرنا المسافة بين كل نص وآخر (والتي تصلح أن تكون بين مجموعة شعرية وأخرى)، يضع المتلقي لهذه النصوص في مواجهة قلقة مع النص، حيث يفترض مباشرة أنه أمام تجربة شعرية ناضجة تم قصقصة الكثير من أفنانها غير المرغوبة، وتشذيب العديد من أفنانها المستطيلة خارج مدى أفق ناصها المتكون بوعي متنام وغير متعجل، وحذف الكثير منها لتغدو بالنضج والشعرية المتقبلة لديه ليظهرها في كتاب.
ملامسة النص:
1. تشكل النصوص الستة في مجملها حالة شعرية خاصة جدا، و مغايرة تماما للكثير من النصوص الشعرية النثرية المعاصرة، في جميع أشكالها المتاحة أمام المتلقي (النص/ النص المفتوح/ نص الومضة)، فبالرغم تقاطعها مع الشعرية المعاصرة في تناول الكثير من الثيمات، كالجسد، والألم، و تصاعد صوت الغربة، ونشيج الموت والحزن والعطش، والملاذ بالأنثى معادل الماء والبلل والرواء.
وذلك من مثل:
من رفاةِ الميتين
من بريةٍ تثغو بها الأرواح
من شمسٍ تخبُّ في أثر الضعون
تسرج لذةَ الإبصار في ليل الضغائن،
يا نشيدَ السراةِ وخطو خيولهم،
ورايات أمصارهم إذ تهلُّ مبايعةً على نحر اليقين.
(من أحفاد الريح، نون الرعاة ص 81)

ومثل:
كلما بللني الماءُ بأنثى
هي الخيلُ
هي ما ينسلُّ من ضلع الصهيل
هي ما يتلى على الماء فيبتلُّ به
تلفني بالريح
بالشمسِ التي تمطر الصحو البهيَّ
على مطارح نومنا
تلهيني بسحابة الجسد
وتسرقني من الدنياi
(من نص بنات بعل ص73)

إلا أن هذا الاختلاف يظهر جليا في اللغة الشعرية التي كتب بها النص، والتي تعتمد المزج الخاص و الدقيق والمتماهي الحدود بين القديم والحديث، حيث يخاتل النص في لغته وألفاظه ومفرداته بين مناطق الشعرية وألفاظها القديمة والجديدة، فعلى حين يوهمك بحداثته تجده محملا ومثقلا بالقديم، من مرابض الإبل، حتى حرقة الهجير، ومن صوت الحداء، حتى أنثى الرمل، وما إن يعن لك تتبع حنين المرابع الدارسة، وغرائبية الأمكنة المندثرة، وجنائزية التيه، وجماليات اللغة البعيدة التي تستعير مفردات الصعاليك ونشوة الخمر في رؤوس الشعراء وتغنيهم به، حتى تصطدم بصوره حداثوية جديدة وروح شاعر ضوئي محلق.
كما يظهر هذا الاختلاف أيضا في اعتماد النصوص تقنية الوحدة النصية المتكاملة البناء، فالنص عبارة عن جملة الشعرية طويلة أو عدد قليل من الجمل المترابطة سواء ترابطا معنائيا من خلال نقص المعنى أو عدم اكتماله في الجملة الواحدة واتصاله (أي المعنى ) بين جمل النص، أو من خلال ارتباطه بإحدى علامات الربط اللغوية كالعطف والتبعية ، والإضافة، أو السياقية كالترقيم.
فالنص عبارة عن مجموعة من الجمل ، معتمدة على جملة أساس، وهي جملة تبئير المعنى المتفرع منها إلى النص، من خلال تفاصيل وخيوط وتفريعات لغوية، تنطلق منها وتتفرع باتجاهات الأطراف لتكوّن صورة شعرية ممتدة ومتواصلة ومتوالدة في اتجاهات شجرية معنائية مختلفة، حيث لا يمكن فصل هذه الصور عن بعضها، كما لا يمكن أسلوبيا اقتناص صورة جزئية إلا من خلال ربطها بما قبلها لأنها قائمة على بلاغة الصورة (النص).

وذلك من مثل:
غريبٌ
يقرأ خلانه طيراً إثر طير،
أتجرعكم مثل دفلى ، لأشفى من دمٍ عالقٍ
بين الخطى والحنين
لتنهزم القبائل عن تخوم العمر

لأصرخ :
عادتِ الروح مهزومة من حرب البراري
أنجبت شجراً يابساً يحط عليه غراب الندامة ينعب :

هنا مر الغريب
تاركاً أيتامه سورةً
في سيرة الهجرة

غريبٌ تهجى أمه ماءً إثرَ ماء
لفي الغريبَ بشمس الهباري،
احفني له بيديك حفنة من سنين الهوى ،فقد يبس فجره
مثل حمري البليخ ، لريح طافت حول

صوتٍ ضابحٍ في تربة النسيان :
إنّ الغريب …
مرَّ هنا
ناثراً أيامه
خاتماً
"سيرة الهجر "
(من نص الغريب – الغريب 59-60)

وفي قوله
هامساً مثل نعناعةٍ فاجأتها المواسمُ:
يا امرأةً باغتتها العذوبةُ ، ادخلي تربتي
واصعدي في نشيجي
سيلي على زمني برهةً من رذاذ .
سيلي على هدْي الجنائزِ ،
ستشرع الروح أبوابها للذهول ، تطلق ريح النداء:
اختلي في هبوبي
وارضعيني حليب ضحكتكِ الرؤوم
(من نص الملعون ص11)

2. جميع نصوص المجموعة تمثل حالة شعرية متناغمة فيما بينها حتى لتكاد تكون نصا واحدا ، لذلك فقراءة نص يسلمك مفاتيح النصوص الأخرى ويهبك مساحة لدخول عوالمها مجتمعة، فالحالة الشعرية التي تسكن الشاعر بالجزع و الشجن ، والعطش ، والسعي وراء الماء (الأنثى) تكاد تجدها ذاتها في جميع النصوص ، كما أن معجمه الشعري التي يتكوّن من مفردات خاصة منتزعة الأواصر من الصحراء بما فيها من جِمال ورمل وحداء وقوافل وظمأ، وموت وقبور، وشواهد ، وشجر صحراوي، وبراري وحيوانات صحراوية، يحكم القبضة على مساحات النصوص جميعا، ويرسمها وفق مفرداته الخاصة وألفاظه الحاضرة بطغيان وفير.
مثل قوله:
بخور الحرمل المنسيِّ ننثره على العصر اليباس
سرائر الماء التي يبست على شفةِ البليخ،
أستنجد بأمي أن تعيد رضاعتي عري التباهي بالذكورة
وأبي الحادي حداء البدو أيام الفزع :
سنزوج الصحراء للخيل الجياع ولن تمرّوا
من دموع الحافيات الباكيات الدالعات صدورهن نجلو
يماني البريق ، منافحين عن هبوب الريح في ميعادها. ( من نص بنات بعل ص73)

الأكثر قراءة