مختصرات المطولات
مختصرات أوجزت فيها الطويل وأبهمت فيها على الرقيب فاكتفيت فيها بالتلميح دون التصريح. رتبتها ليشرح المختصر منها المختصر فيها متفاديا بذلك التكرار والإطالة لئلا تَنقُص بالإسهاب والزيادة، فيفهمها اللبيب ويأنس بها القارئ الحبيب.
بكين إلى أين المفر؟
تخوف أوباما من توقف الصين عن شراء الديون الأمريكية، فطار بالخبر كل راء وسامع وقارئ. داعب أوباما بذلك التخوف عواطف الناس في أنحاء المعمورة فأحرج الساسة لأغراض دساسة. زها الصيني بذلك التخوف فخرا، وشفيت صدور العرب بعد أن امتلأت غيظا، وضاقت عينا الأوروبي قلقا من دسائس التصريحات وخفايا النوايا والتحديات.
العجز التجاري الأمريكي أمام الصين قد أقلق الرئيس الأسود النجيب، فأمريكا قد دللها الرئيس القديم فاعتادت الكسل والرئيس الجديد لا يؤمن بالاتكالية ولا تعجزه الحيلة. أبت الصين أن تُعدل سعر صرف اليوان، فحرك الرئيس المحنك شعب الصين بذلك التصريح فلعل وعسى أن تغلب السياسة الاقتصاد فيتوقف بنك الصين المركزي عن شراء الدولار فترتفع عندئذ قيمة اليوان وتغلو بضاعة الصيني فترجع أمريكا لمصانعها وإنتاجها وتفيق من غفلتها وتترك عنها الكسل فيزدهر الاقتصاد ويسعد الأحفاد والأبناء. وقد يحتال الصيني لنفسه فلا يرفع قيمة اليوان ويستمر في شراء الدولار، ولكن لا يضعها في سندات أمريكية، بل في سندات أوروبية وهذا ما أذعر الأوروبي.
شراء الصين السندات الأوروبية بالدولارات الأمريكية سيرفع قيمة اليورو، فيختنق الاقتصاد الأوربي أكثر مما هو مختنق. وعلى أوروبا بعد ذلك أن تشتري السندات الأمريكية بهذه الدولارات بدلا من الصين، فيتحقق لأمريكا هدفان. أولاهما ضربة موجعة لليورو، وأخرهما دائن جديد بدلا من الاعتماد على الدائن الصيني، فيتحقق بذلك التنويع في الدائنين ويقل التهديد المستقبلي. أما إذا أراد الأوروبي أن يخفف من حدة ارتفاع قيمة اليورو، فما عليه إلا أن يطبع مزيدا منه لشراء مزيد من الدولارات ومن ثم شراء المزيد من السندات الأمريكية.
إن تخوف أوباما من توقف الصين عن شراء السندات الأمريكية هو في حقيقته ضغط سياسي اقتصادي على الصين، وحرب باردة على اليورو، وتأكيد لهيمنة الدولار.
عندما بكت أوروبا على بوابات مدينة الملك عبد الله
اجتمع المحاربون القدماء بذكرياتهم وآلامهم ونار ثاراتهم الباردة في منتجع هادئ بعيدا عن الحياة قريبا من البرزخ يقال له صعبر، فحرك فيهم أحاسيس المجهول فحكوا قصة الحاضر بنكهة مرارة الماضي وإدراكٌ لفوات المستقبل. حكاياتٌ ضبابية كضبابية لفائف الدخان التي نفثها هيلموت شميت بعد إلقائه خطابا حكى فيه حالة العالم اليوم. إلقاء الخطاب ومضمونه حَدث عن ذاكرة لم تنس قط مرارة هزائم متتالية تجرع الألمان فيها ذل الخضوع والتبعية للإمبراطورية الأمريكية. لم تكن هزيمة أوروبا في الحرب العالمية الثانية بخضوعها للنفوذ الأمريكي إلا بداية لانتصارات أمريكية متتالية على ألمانيا وأوروبا، فقد انتزع الدولار من أوربا عرش عملة الاحتياط، ثم عاد فجحد الذهب الموعود فتمردت أوروبا باليورو، فحطم الدولارُ اليورو بتخفيض قيمته عند انطلاقته، فكسر بهجته وصرف الآمال عنه في بداياته. ثم عاد الدولار فخنق اقتصادات أوروبا برفع قيمة اليورو.
والآن وبعد أن جر الدولار العالم كله معه في أزمة اقتصادية كان من المفترض أن تكون مقتصرة على أمريكا وحدها منذ ثماني سنين، عاد الدولار وانتصر مرة أخرى وشاهد ذلك هروب العالم إلى أحضان من كان السبب في أزمته. وهذا في حقيقته إعلان صارخ لهيمنة الدولار، وإن كان الإعلام يعمل كمسل ومنفس عما في صدور الشعوب بتصوير انهيار اقتصادات الدولار.
هناك في رابغ بكى هيلموت شميت اقتصادات أوروبا وأقر بانتصارات أمريكا. هزائمٌ باردة، لم يُسفك فيها دم ولم يُنفث فيها بارود، أدركها المستشار الألماني المخضرم فنفس عنها بدخان السجائر حال نهاية إلقائه الخطاب.
لم يخف المستشار الألماني اعترافه بالهزيمة وسقوط الحلم الأوروبي الذي عاشه منذ عام 1946، حلم إمبراطورية أوروبا الموحدة التي ستحتل عرش الإمبراطورية الأمريكية. شهد المحارب المخضرم بنجاح وحدة أوروبا الشكلية لا الضمنية، ولكنه تحسر باليأس من هدفها الاستراتيجي بأن تصبح إمبراطورية تُسقط الإمبراطورية الأمريكية.
والمستشار المخضرم ما زال متفائلا بسقوط الإمبراطورية الأمريكية، ولكنه آيس أن يكون على يد أوروبا، بل على أيدي أمم أخرى ذكرها تصريحا وطلب معاونة دول الخليج على ذلك تلميحا.
العالم غربه وشرقه، أبيضه وأسوده يغني طربا كل على طريقته ومذهبه يسلون النفس وينشدون أهازيج النصر يرددون خلف الأمريكان عاش أوباما وسقط بوش.
يا لأبداعات أمريكا، بوش لم يسقط، بل عاش وحقق أهداف بلاده الاستراتيجية كما عاش وفعل كلينتون وريجان وكما يأمل أوباما أن يعيش ويفعل، هؤلاء زعماء أحاطوا أنفسهم بحاشية حملوا هم أوطانهم لا هم ذاتهم، فقادوا بلادهم من نصر إلى نصر رضي الناس أم سخطوا.
كيسنجر والنفط
نقضت أمريكا عهدها عام 1971 فرفضت استبدال الدولار بالذهب فانكشف الدولار وظهرت الحاجة للغطاء. وأتت الفرصة مواتية ينتهزها كل ذي نظرة ثاقبة في ارتفاع أسعار النفط بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، فدار كيسنجر الدنيا يحتال بطرق مباشرة وأخرى ملتوية للمحافظة على ارتفاع أسعار النفط. وأعانه الإعلام الأمريكي فطبل وهول وعظم من شأن البترول المُقيم بالدولار، فصور المسكين كيسنجر وهو يقود دراجته الهوائية إلى مقر وزارته (فلو كان عنده دولارات لاشترى بها نفطا)، وأقيمت معاهد اللغة العربية في كل أنحاء أمريكا. وما أن ثبت في النفوس والعقول أن الدولار، وإن لم يعد يمثل الذهب، فهو في الواقع قيمة للمواد الأولية وعلى رأسها النفط (السلعة الاستراتيجية)، حتى عاد الاستقرار للدولار على عرشه كعملة الاحتياط. وما إن تحقق الهدف الاستراتيجي الأول وهو هيمنة الدولار حتى تهاوت أسعار النفط في أواخر الثمانينيات وغالب التسعينيات، والتفصيل لا يسمح به الرقيب.
فأتى اليوم من قد أعمى الغرور بصيرته وعطل الإنكار معرفته فلم يُدرك لِمَ حرصت أمريكا على رفع أسعار البترول في السبعينيات، فجاء اليوم بحمل لواء الدعوة إلى إغراق الأسواق بالبترول، يزعم بذلك أنه يفوت خطة ما مريبة تُحيكها أمريكا برفع أسعار البترول. وما درى الأحمق أنه دمية مغفلة لعب بها كيسنجر بالأمس وتلعب بها أوروبا اليوم.
الرياض مقر البنك المركزي الخليجي، وهل في ذلك شك؟
العملة في زماننا هذا غطاؤها الثقة وقيمتها سمعتها وضمانها قوة منتجها السياسي والاقتصادي. والبنك المركزي هو رمز العملة وممثلها، لذا يجب أن يقع على أرض يستقوي بها لا أن يقع على أرض تستقوي بوجود البنك فيها.
أي ثغرة في عملة ما سيجعلها هدفا استراتيجيا سواء من أعدائها السياسيين أو من المنافسين، فإن لم يكن هذا أو ذاك فستصبح هذه الثغرة مطية للمضاربين الذين يتلاعبون بالأخبار والشائعات ليقتاتوا على ثغرات العملات.
أدرك الاتحاد الأوروبي حساسية العملة فكانت فرانكفورت مقر بنكها المركزي. والرياض في قلب الاتحاد الخليجي جغرافيا، ما يوفر البعد الجغرافي عن مواطن الشغب السياسي. والرياض عاصمة أقوى دولة سياسيا وعسكريا واقتصاديا في المنطقة. والرياض بعيدة عن كل قيل وقال، فهي لم تخل بسعر الصرف يوما من الدهر فتكثر الشائعات والمضاربات حول العملة. والرياض لم تُتهم قط بأنها محطُ لغسيل الأموال فتوصم العملة بأنها عملة قذرة. والرياض هي من يمثل الخليجي فلا يعتقد أحد (لكثرة ما يرى من الفرنجة حول الديار) أن البنك يدار بواسطة "مجلس عملة" أجنبي كالذي في هونج كونج فتوصم العملة بأنها تابعة، فلا تصبح أبدا متبوعة، فتخسر جوهر سبب قيامها.
تحديد أرض البنك المركزي الخليجي لا يخضع لجبر الخواطر والمجاملات، بل هو قرار استراتيجي يحدد مستقبل ومصير العملة الخليجية الموحدة.
والختام مسك
قام نكرة منبوذ من قمامة التاريخ بين قوم يقص عليهم من إسرائيلياته فبجل اليهودي كيسنجر وذكر الشهيد الفيصل بأسلوب الند فكان يقول قال "فيصل" وفعل "فيصل". ولم يجرؤ التعيس على ذكر الشهيد الفيصل بسوء، فيرجمه الحاضرون بالنعال والأحذية، فالشهيد قد ترك مجدا خالدا تليدا بعيدا عن كل قيل وقال، فلجأ المسكين إلى ذكر الفيصل مجردا. الشهيد الملك الصالح لا يُذكر بفيصل مجردا، بل غيره فيصل والشهيد هو الفيصل وكفى، وأجمعت الأمة على هذا، والحمد الله رب العالمين.
ذلك الفيصل الذي مَلك الدنيا بأسرها، يشهد على قولي هذا أن بكاه العرب والعجم، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، العدو منهم والصديق.
ذلك الشهيد الفيصل الذي أحبته الأمة فقال شاعرها:
يا بن عبد العزيز يا لنداء في مداه ناديت كل الرجال
عشت في صمتك المدل على الحق غريبا عن كل قيل وقال
الفُجاءات في مجالك فساح وفي راحتيك سحر المجال
أنت من رنحت بالعباءة عطفيه ورصع رأسه بعقال
وتركت الأقوام ما بين شاك من صدود أو طامع في وصال
ربع حطين موحشٌ يا صلاح الدين إلا من ذكريات الغوالي
سر بنا صوبه وصل بنا في القدس واضرب حرامه بالحلال