دوما الجانب الجيد في الحياة!

أرسطو يفهم الحياة أنها كوميديا لمن يفكر، وتراجيديا لمن يشعر.
أي أن التأمل يحرر الإنسان من المشاعر السلبية، والاستسلام لأفكار حزينة تحيل الروح إلى غرفة مظلمة. وعبارة (الكوميديا) و(التراجيديا) مصطلحات من الثقافة اليونانية، و(الكوميديا) تعني المهزلة، أما (التراجيديا) فهي المأساة. واعتبر القرآن أن أهم شعورين يطوقان الإنسان هما: الحزن والخوف. الحزن مما مر، والخوف مما يأتي، فقال (لكيلا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم).والقرآن يكرر عبارات ومصطلحات بدقة لا نهائية، كما يسميها البعض (المنطق الداخلي للقرآن)، ولكن لماذا كان كلا الشعورين سائدين عند الناس؟ ولماذا يقع الناس تحت ضغطهما الماحق؟ وما معنى أن يتخلص الإنسان من قبضة هذين الشعورين غير الصحيين؟
وللجواب على هذا السؤال الحرج، حاول الفلاسفة رؤية الموضوع بطريقتهم، فرأوا أن تأمل الحياة بهدوء، يوصل الإنسان إلى طمأنينة باطنية عجيبة، وأن مناظر البؤس الخارجية ليست دائمة ولاشاملة، والمأساة فيها ليست من داخلها، بل من شعور الإنسان وموقفه تجاهها.
أما الفيلسوف الروماني من المدرسة الرواقية (ابكتيتوس) فيقول؛ إنه ليس هناك من شر محض في العالم، وهات لي ما تشاء مما يخيل إليك أنه شر من فقر وعوز ومرض بل وموت، وسوف أحولها لك بعصا هرمز إلى خير. وأذكر أخاً فاضلاً كان يشتغل في معمل للدهان في حلب، ثم حدث خطأ فظيع في مزج الألوان؛ فهرعوا إلى المشرف، وكان المالك للمصنع، فقام بدراسة الوضع بسرعة فاستنتج ألوانا جديدة من نفس الخلطة الغلط. وهكذا فهو قابل المعضلة والتحدي بهدوء، وليس بالانتحاب على ما حدث، فقد حدث ما حدث، ولا يمكن تعديله، ولكن كيف يمكن الاستفادة مما حدث، بحيث يحول على الأقل الكارثة الكبيرة إلى كارثة من حجم أصغر. يقول صاحبي إن ما حدث كان نعمة من جهة، فخرج لونا زاهيا غير متوقع وأمكن بيعه في السوق المحلية. ونفس الشيء حصل مع عقار (الفياجرا)، الذي كان بالأصل لمرضى القلب، فقضى على البعض تحت التجربة، ثم تبين أنه ينهي مشكلة جنسية عانى منها الناس منذ أيام حمورابي.
ويذكر عن عالم أمريكي أنه كان يعالج لدائن من أنواع شتى، لإنتاج مادة صناعية تفيد المطابخ، وفي أحد المرات حصل خطأ بشع حزن عليه صاحبه، ولكن الذي ظهر أن المادة الجديدة ممتازة وهي (التفلون)، وتنفع في طليها في قاع الطناجر، بحيث لا يلتصق بها الطعام، ومنها خرجت صحون التيفال المنوعة. التي لا تستغني عنها ربة منزل. وهذه الخاصة بتزحلق المواد على سطحها حركت في ذهنه الاستفادة منها في صناعة الشرايين الصناعية. من مادة الجورتكس، وهي شرايين لا يستغني عنها جراح أوعية دموية حاليا. واليوم يستخدم جراحو الأوعية الدموية مواد الجورتكس والتفلون من وراء هذه الغلطة المباركة. ونفس القصة حصلت مع اكتشاف (البنسلين) الصاد الحيوي الرائع من عفن نما على نحو عرضي، تم اكتشافه بمحض الصدفة، وتبين أنه ليس عفنا، بل عقارا رائعاً يقضي على العديد من الجراثيم الضارة. وأذكر من رحلة اختصاصي في ألمانيا من مدينة (جيلزنكيرشن بور) أنني كنت أساعد جراحاً صربيا، وكنا في عملية استئصال تورم دموي خطير (انورزم) في شريان البطن، فمد يده الزميل (بعنترية) ليعزله بطريقة لا تخلو من الخشونة، فكانت تكلفتها أن الوريد الأجوف السفلي انقطع كلية، وانفتحت حنفيات الدم مدرارا. وأصيب الجراح (البطل) طبعاً بالهلع، وما زلت أتذكره وكأن فكه السفلي انخلع من مكانه، قلت له: نحن في ورطة، وأنت بوضعك الحالي في ورطة أشد؛ فهدئ روعك وتماسك، حتى نستطيع السيطرة على الموقف. قال بانكسار وماذا نفعل؟ قلت له يوجد أنابيب صناعية مكان المصابة، وهذا الذي كان فقد زرعنا في مكان الإصابة، شريان الجورتكس الذي ذكرته، وكانت الكلمات بردا وسلاما، وأمكن إنقاذ حياة المريض، التي كانت تسبح بين الموت والحياة، فاستأصلنا الأنورزم، وصلحنا الوريد الأجوف السفلي، وعاش المريض. واعترف الجراح في اليوم التالي بعسرة الساعة وفائدة النصيحة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي