بصمة الجامعة على المُجتمع

ألقى مدير جامعة "كارنيجي ميلون Carnegie-Mellon" مُحاضرة في حفل لخريجيها السابقين طرح فيها أهم ثلاثة توجهات تميز جامعته وتجعلها بين أهم جامعات العالم. وجامعة "كارنيجي ميلون"هذه جامعة أمريكية بلغ عمرها نحو 100 عام، حيث تم تأسيسها كمعهد تقني في مطلع القرن العشرين، في مدينة "بتسبرغ" بولاية "بنسلفانيا". وقد حصلت أخيرا على المرتبة السادسة بين جامعات العالم، في مجال التقنية، في أحد أهم التصنيفات الجامعية، وهو تصنيف "تايمز Times". والجامعة صغيرة نسبياً حيث يبلغ عدد طلبتها حوالي "أحد عشر ألف طالب"؛ لكن نصف هؤلاء تقريباً في مرحلة الدراسات العليا، مما يُعزز موقعها كجامعة بحثية تسعى إلى العطاء المعرفي. وقد بدأت الجامعة بفتح فروع لها حول العالم، منها فرع في أستراليا، وفرع آخر حديث نسبياً في دولة قطر.
وتتلخص التوجهات الرئيسة الثلاثة التي طرحها مدير جامعة "كارنيجي ميلون" بما يلي: "تعزيز تأثير الجامعة المعرفي في المجتمع محلياً ودولياً"؛ و"التعاون والشراكة في العمل الجامعي بين المُتخصصين في المجالات المعرفية المُختلفة"؛ و"الجدية والمثابرة في العمل". وكما هو واضح في هذه التوجهات، فإن المحور الرئيس لها هو التوجه الأول الذي يهتم "بأثر" الجامعة أو "بصمتها" على المجتمع وعلى الإنسان ليس فقط على المستوى المحلي، بل وعلى مستوى العالم أيضاً. أما التوجهين الآخرين فهما في خدمة هذا المحور، بمعنى أن تفعيل التعاون والشراكة والمثابرة في العمل، يأتيان من أجل تعزيز الأثر الإيجابي للجامعة بما يفوق أثر الجامعات الأخرى.
في إطار المحور الرئيس للتوجهات الثلاثة، محور "تعزيز تأثير الجامعة في المُجتمع محلياً ودولياً"، يُوضح مدير الجامعة أن الهدف هنا ليس إعداد الخريجين، ولا كمية البحوث العلمية المنشورة. بل نوعية الخريجين، وطبيعة البحوث الجارية. والمعنى المقصود هنا هو ضرورة التركيز على إمكانات الخريج وقدرته على خدمة المُجتمع من جهة؛ وعلى البحث العلمي الذي يعمل على تقديم الحلول "للمشاكل الرئيسة" المُؤثرة في المُجتمع من جهة أخرى. وقد لا تكون مثل هذه المشاكل مُعرّفة وواضحة ومطروحة ومُصاغة بالشكل المطلوب، لذا فإن الكشف عن مثل هذه المشاكل والقيام بتحديد وتشخيص جوانبها المُختلفة يصبح جزءاً من البحث العلمي المُؤثر المنشود.
ويأتي توجه "التعاون والشراكة بين المجالات المعرفية المُختلفة" داعماً لمحور التأثير وحل المشاكل الرئيسة. والجوهر في هذا الدعم يكمن في حقيقة أن كثيراً من المشاكل القائمة في المُجتمع، المحلية منها والدولية، تتصف بطبيعة تتعدد المجالات المعرفية المرتبطة بها. فنجاح تقنية معينة في التأثير في المُجتمع لا يعتمد فقط على القيمة النظرية العلمية التي تستند إليها هذه التقنية، ولا على جودة الأسلوب الهندسي في إنتاجها، أو مهارة تسويقها، أو مدى قناعة المستفيد منها في دفع تكاليفها واقتنائها، بل يعتمد على جميع هذه العوامل التي تمتزج فيها النواحي العلمية بالهندسية والتجارية والاجتماعية في إطار جامع مُشترك.
انطلاقاً مما سبق نجد أن التعاون بين المجالات المعرفية المُختلفة ضرورة للقيام بدور أبلغ تأثيراً في المجتمع، وهذا ما تأخذه جامعة "كارنيجي ميلون" في الاعتبار وتعمل على توفير البيئة العلمية الجامعية لتنفيذه. ومن أمثلة ما قامت به في هذا المجال تأسيسها "لقسم الهندسة والسياسات العامة" منذ أكثر من ربع قرن. ويجمع هذا القسم بين التخصصات الهندسية من جهة، والسياسات العامة التي تسعى إلى الاستفادة منها في المُجتمع من جهة أخرى، في إطار مشروعات مفيدة ترتبط بمجالات معرفية مُختلفة.
و"للجدية والمثابرة" دور أساسي أيضاً في تعزيز إمكانات الخريجين ودعم العمل "التعاوني المشترك" من أجل تأثير أكبر في التعامل مع مشاكل المُجتمع. فبالجدية والمُثابرة في إطار توجه مُحدد يُمكن التأثير وتحقيق الأهداف المنشودة ووضع البصمة المُناسبة؛ ودون هذه الجدية والمثابرة والتوجه تتواضع الجهود وتتوزع دون هدى ويضيع الزمن دون إنجاز، والزمن بالطبع هو الثروة الجارية في الحياة، على الإنسان أن يستفيد منها.
والأمل بعد عرض ما سبق أن نتعلم من تجارب الآخرين وخبراتهم، صحيح أننا يجب ألا نُقلد وأن نكون مُبدعين، لكن الاستفادة من تجارب الآخرين مرحلة مهمة في الطريق نحو الإبداع المتواصل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي