من حكايات "المدنبشات"!

قبل نحو شهرين وبينما كنت أبحث عن حقيبتي بين الحقائب المتراصة على السير الكهربائي في مطار الملك عبد العزيز في جدة فوجئت بشخص يهمس بالقرب مني "سيارة يا شيخ" وحين التفت له وجدته مسناً عبثت به الدنيا ونثرت في عينيه عشرات الحكايات التي تنتظر المستمعين.. لم أتردد طويلاً في قبول عرضه .. فقط طلبت منه أن ينتظر حتى وصول الحقائب.. فما كان منه إلا أن هز رأسه بابتسامة وانزوى بعيداً وهو يراقبني بعين ويراقب مخرج الصالة بعين أخرى.. كنت أعلم أنه من سائقي الأجرة غير النظاميين وقد تسلل إلى المكان بحثاً عن زبون يوفر له مبلغاً بسيطاً لعشاء أبنائه.. ولا أعلم حتى هذه اللحظة لماذا شعرت تجاهه بارتياح جعلني أتجاهل النظام, واستقل سيارته "الخصوصي" القديمة ذات المكيف المعطل, رغم اصطفاف عشرات سيارات الأجرة النظامية الحديثة أمام بوابة المطار.
في الطريق سألني إن كنت قادماً لعمل أم زيارة فأخبرته أنني قادم لمهمة سأنجزها خلال ساعات وأعود للمطار فعرض علي أن يعيدني ولم أبد اعتراضاً.. فشكرني وأخذ يحكي لي عن الحالة المادية الصعبة التي أجبرته على مطاردة الزبائن في صالات المطار وهو في هذه السن, وعندما سألته عن إن كان له أولاد يعينونه على مصاعب الحياة قال: "لدي أولاد تخلوا عني وناصبوني العداء بسبب زواجي الأخير من امرأة عربية قدمت قبل سنوات للعمل في أحد المشاغل النسائية في مدينة جدة!".
حاولت أن أغير الموضوع حينما شاهدت علامات التأثر والحزن تتقافز فجأة على ملامح الرجل, لكنه لم يتوقف عن سرد حكايته وكأنه كان ينتظر مستمعاً جديداً.. قال لي إنه تقاعد من قطاع حكومي قبل أكثر من 15 سنة وكانت حالته المادية تستنفر أعين الحساد وكان على ذمته وقتها أربع نساء, لكن حالته تدهورت بعد أن طلق إحداهن ليتزوج من تلك المرأة العربية التي "دنبشته" بحسب قوله!
و"الدنبشة" لمن لا يعرفها تعني في اللهجة الحجازية "السحر".. ولذلك فقد حاولت ممازحته بقولي "دنبشتك بالجمال أكيد" فضحك قبل أن يكمل: "لا يا ولدي بل بالسحر الأسود زوجتي هذه من دولة يشتهر أهلها بممارسة السحر والشعوذة وأنا أعرف أنني مسحور فقد شاهدتها ترسل قطعاً من ملابسي وبعض شعرات من شعري إلى بلدها ولم أتكلم.. أنا لا أستطيع الاعتراض عليها".. هنا تحديداً تملكتني الدهشة وشككت في كون الرجل مريضا نفسيا أو مخبولا لكنه لمح ذلك في تعابير وجهي وسألني: "هل سبق أن زرت تلك الدولة؟" فأجبته بالنفي ليستمر في سرد حكايته حيث روى لي أنه زارها عشرات المرات بعد أن تزوج منها, وأنه ينصح كل معارفه بعدم الذهاب إليها حتى لا يقعوا في مشكلته نفسها و"يتدنبشون"!
قلت له إنه واهم بلا شك, وعليه مراجعة طبيب نفسي فربما كانت هذه الوساوس نتيجة لمرض نفسي بسيط يسهل علاجه وأخذت أشرح له أن مراجعة الطبيب النفسي ليست عيباً وأن كثيرا من الناس يمرون بظروف قاهرة قد تترك فيهم آثاراً نفسية تحتاج إلى العلاج, فضحك بسخرية مردداً "علاجي عند الشافي" قبل أن يفاجئني بسؤال عن إن كانت لي قريبات يذهبن إلى المشاغل ومراكز التجميل النسائية التي تعمل بها سيدات من جنسية زوجته نفسها, فقلت ضاحكاً وهل هناك امرأة في هذا العصر لا تذهب مثل هذه المراكز؟ فما كان منه إلا أن قطب حاجبيه محذراً إياي من السماح لهن بذلك, واصفاً تلك المراكز ببؤر السحر و و و و.
لم يكمل حديثه حتى وصلنا إلى وجهتي فشكرته وحاسبته وهممت بالنزول من السيارة, فأمسك بيدي طالباً مني تسجيل رقم هاتفه لأتصل به عند الانتهاء من عملي حتى يقلني حسب الاتفاق إلى المطار, فسجلت رقمه لكني عدت إلى الرياض دون أن أتصل به.
واليوم فقط تذكرت حكاية ذلك المسن بعد أن أخبرني أحد الأصدقاء أن قريباً له كنت قد التقيته في مناسبة عابرة عنده.. تزوج قبل أسبوع دون أن يدعو أحدا لحفل زواجه, مضيفاً أنه ربما خجل منّا لأنه تزوج سيدة "عربية" تعمل كوافيرة في مشغل تمتلكه زوجته الأولى!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي