تنظيم التطوير العقاري بين المشروعية وفقه الضرورة
أظهرت التطورات العالمية مدى الحاجة إلى تنظيم التطوير العقاري في المملكة في ظل آثار الأزمة العالمية للرهن العقاري، وكانت أهم الانتقادات تتركز حول الوضع الشرعي لبيع الوحدات السكنية تحت الإنشاء ( البيع على الخريطة)، ومدى تلائمها مع قواعد الفقه الإسلامي، و تلاؤم التطوير العقاري مع الأحكام القانونية بيع العقار المطبقة في المملكة العربية السعودية.
ونتناول في هذه المقالة بالبحث هذه الملاحظات الواردة علي بيع الوحدات السكنية تحت الإنشاء ( البيع على الخريطة) من الناحيتين الفقهية والقانونية فيما يلي:
أولاً, من الناحية الفقهية:
تركزت معظم الانتقادات لبيع الوحدات السكنية تحت الإنشاء لكونها تشابه بيع المعدوم ،و لقد أجمع فقهاء الشريعة الإسلامية في باب البيوع على وجوب أن يكون محل البيع موجودا فعلا وقت التعاقد . فان لم يكن موجودا فالعقد باطل، حتى لو كان المحل محتمل الوجود بل حتى لو كان محقق الوجود في المستقبل . ولقد تشدد الفقه الإسلامى في جعل عقد بيع المعدوم باطلا على هذا النحو إمعانا في الخشية من الغرر . ولكن هذه القاعدة الفقهية التي طالما استقرت في البيوع وفق الشرع الإسلامي الحنيف سرعان ما أدخل عليها بعض التيسير غير المخل بمضمونها وبما يتناسب مع حاجات الناس ومصالح العباد، حيث أجاز الفقه الإسلامي بيع المعدوم في حالتين هما بيع السلم وعقد الاستصناع:
أما بيع السلم، فهو '' بيع شيء غير موجود بالذات بثمن مقبوض فى الحال، على أن يوجد الشيء ويسلم إلى المشترى في أجل معلوم ''.
أما عقد الاستصناع، فهو ضرب من ضروب بيع المعدوم ومحله عين محددة الأوصاف يقوم بصنعها الصانع وهو هنا البائع لمصلحة المشتري، حيث ينعقد البيع على العين وليس على عمل الصانع ( البائع) دون تحديد أجل معين .
من الثابت في فقه البيوع أنه يجب أن يكون محل الالتزام التعاقدي – إذا كان الالتزام التزاما بنقل حق عيني يتعلق بشيء معين – موجوداً، أي يجب أن يكون الشيء الذي يتعلق به الحق العيني موجوداً وقت نشوء الالتزام . وهنا يجب التمييز بين فرضين : إما أن يكون المتعاقدان قد قصدا أن يتعاقدا على وحدة سكنية (محل) موجود حالاً، وإما أن يكونا قد قصدا التعاقد على وحدة سكنية (محل) غير موجود حالاً ولكنه ممكن الوجود في المستقبل.وهو ما نبحثه على النحو الآتي:
1- التعامل في وحدة سكنية موجودة حالاً :
وفى هذا الفرض الأول، إذا كان قصد المتعاقدان التعامل في وحدة سكنية موجودة حالاً، ولم تكن الوحدة السكنية موجودا فعلا وقت التعاقد، فإن العقد يكون باطلا، حتى لو أمكن وجود الشيء في المستقبل .
2- التعامل في وحدة سكنية ستوجد مستقبلا :
في هذه الصورة نجد أن المتعاقدين قد قصدا التعامل في وحدة سكنية لم تكن موجودة عند التعاقد، ولكنها ممكنة الوجود في المستقبل ولا يشترط أن تكون موجود فعلا وقت التعاقد، فإن العقد ينعقد صحيحا حتى لو لم تكن الوحدة السكنية موجودة مادام أنها ممكنة الوجود في المستقبل.
وبالتطبيق لهذه الأحكام على موضوع المقال، نجد أنه يجوز بيع الوحدات السكنية تحت الإنشاء أو ما يطلق عليه عرفاً (البيع على الخريطة) ولذلك أساس في الفقه الإسلامي وكذلك في ظل الأنظمة الوضعية المعاصرة.
ثانياً , من الناحية القانونية:
اتفقت التشريعات الوضعية، عربية وغربية، على وجوب أن يكون محل الالتزام معينا بذاته أو معينا بنوعه ومقداره وإلا كان باطلا، وذلك ما نصت عليه المادة 133 من التقنين المدني المصري . وكذلك المادة 126 من التقنين المدني العراقي. غير أن المادة 132 من التقنين المدني المصري قد نصت على جواز أن يكون محل الالتزام ممكن أي قابل الوجود وهذه المادة تطابق نص المادة 132 من التقنين المدني الليبي.
وقد أجمعت كافة التشريعات العربية في هذا الشأن على ضرورة إمكانية محل الالتزام . وعلى ذلك نصت المادة الأخيرة على انه '' إذا كان محل الالتزام مستحيلا في ذاته كان العقد باطلا''.
ولكن الاختلاف قد دب بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي في مسألة نقل الملكية، حيث استقر الفقه الإسلامي على أن العقد في ذاته ينقل الملكية، أما القانون الوضعي فقد استقر على العقد لا ينقل الملكية، لكنه ينشئ التزاما بنقل الملكية، فإذا تم التنفيذ ينتقل الملك تنفيذا للالتزام وليس بحكم العقد كما في الفقه الإسلامي . ومن كل ماسبق، يتضح مشروعية بيع الوحدات السكنية تحت الإنشاء . غير أن أي من التشريعات العربية المعاصرة لم تضع نصوصا قانونية تكون بمثابة ضمانا للمشترى في حالة بيع هذه الوحدات، وتركت ذلك لحرية المتعاقدين في أن يتخذوا من الضمانات ما يحول بين أن تتحول هذه البيوع إلى نوع من التحايل الذي قد يصل إلى النصب، مرورا بالمسؤولية التقصيرية .
وعلى ذلك يكون بإمكان المشترى اتخاذ ما يراه ضامنا لحقه سواء في نصوص العقد ذاته أو بأي وسيلة أخرى تؤكد الالتزام بالتسليم وتردع البائع عن الإخلال به أو التقصير في تنفيذه، في ضؤ قواعد المسؤولية المدنية والعقدية .
وعند النظر في الأنظمة المعمول بها في المملكة العربية السعودية لن نجد سوى نظام الملكية المشتركة للوحدات العقارية الصادر بالمرسوم الملكي رقم : م/5 الصادر بتاريخ 11/2/1423هـ، وهو قانون ينظم العلاقة بين ملاك الوحدات السكنية بعد التملك، ولكن أظهر التفاعل في التطوير العقاري في المملكة وجوب إيجاد تنظيم لعلاقة المطور العقاري بالمشترين للوحدات السكنية تحت الإنشاء ( البيع على الخريطة) قبل إتمام التملك، خصوصاً في ظل ظهور مطورين عقاريين دوليين يخشى من ضياع حقوق المشترين في حالة توقف المطور العقاري عن أداء التزاماته او التسليم للوحدات في الموعد.
ورأت المملكة ضرورة أن تحذو حذو الدول التي نظمت هذه العلاقة مثل سنغافورة ودبي، ولذلك صدر قرار مجلس الوزراء رقم 73 وتاريخ 12/3/1430هـ بإيجاد ضوابط أولية لتنظيم بيع الوحدات السكنية تحت الإنشاء (البيع على الخريطة)، وجاءت أهم أحكامه:
أولاً, تحظر مزاولة نشاط بيع أي وحدات عقارية على الخريطة – مهما كان غرضها – سكنية أو تجارية أو مكتبية أو خدمية أو صناعية أو سياحية أو غيرها، أو الإعلان عنها في وسائل الإعلام المحلية أو الخارجية، أو تسويقها في المملكة، أو العرض عنها في معارض، إلا بعد الحصول على موافقة من اللجنة المنصوص عليها في البند (ثانياً) من هذه الضوابط.
ثانياً, على من يزاول بيع وحدات عقارية على الخريطة في المملكة قبل صدور هذه الضوابط التقدم إلى اللجنة لتعديل أوضاعه بما يتفق مع هذه الضوابط. وعلى اللجنة مراعاة كل حالة على حده وما وصل إليه مشروع التطوير العقاري بما لا يضر بحقوق المشترين والمطور العقاري.
ثالثاً, يفتح حساب لكل مشروع على حدة – بعد الحصول على موافقة اللجنة المشار إليها – يسمى ''حساب الضمان'' في أحد المصارف المرخص لها في المملكة، ويكون هذا الحساب مخصصاً لاستقبال الدفعات التي يدفعها المشترون على الخريطة أو الممولون لهذه المشاريع . وتحدد اتفاقية تبرم لهذا الغرض بين البنك والمطور العقاري شروط إدارة هذا الحساب وحقوق الأطراف المتعاقدة والتزاماتها وفقاً لما تقرره اللجنة في هذا لشأن.
وهذه الضوابط لا تعتبر قانونا متكاملا بل مجرد قواعد وقتية تنظم عمل التطوير العقاري حتى يقوم مجلس الشوري بدراسة ملف التطوير العقاري بأكمله وإعداد مسودة قانون متكامل (نظام حساب ضمان التطوير العقاري) والعمل بموجبه بما يحمي حقوق المشترين وكذلك يحمي حقوق المطور العقاري ويسد ثغرة قانونية طالما طال انتظارها.
وختاما نؤكد أن عقد بيع الوحدات السكنية تحت الإنشاء (البيع على الخريطة) هو عقد صحيح يتماشى مع قواعد الفقه الإسلامي والقانون الوضعي.