ما الذي حوّل الملك آشوكا إلى فيلسوف رحمة؟

اختلفت أنا والأخت السباعي الكاتبة المرموقة حول السر في تغير حياة الملك آشوكا من سفاح إلى فيلسوف رحمة. ولكن من هو هذا الرجل المثير في التاريخ؟
في عام 273 قبل الميلاد، اعتلى عرش الهند الملك المسمى «آشوكا فارذانا»، وكانت مملكة عريضة، تضم كل الهند الحالية، ماعدا مناطق التاميل في الجنوب، إضافة إلى بلوشستان وأفغانستان.
وكان ملكاً جباراً يحكم بالحديد والنار مثل سائر الطغاة في التاريخ، ومما فعله أنه بنى سجناً رهيباً شمال العاصمة، أطلق عليه الناس «جحيم آشوكا»، وكانت تعاليمه أن من دخله لا يخرج منه حيا. حتى جاء ذلك اليوم الذي نقل له السجان خبرا غريبا عن راهب بوذي جاءت الأوامر بإلقائه في وعاء من الماء يغلي، ولكن الوعاء أصبح بردا وسلاما عليه!!
هكذا تقول الأسطورة!! فهرع الإمبراطور ليطلع على أمر الراهب؛ فوجد الأمر حقيقة، فلما أراد الانصراف، منعه السجان بقوله تعليماتك يا سيدي ننفذها حرفياً؛ فمن دخل خرج ميتاً، ولن تشذ أنت عن القانون!
أيضا.. هكذا تقول الأسطورة، وهي خلاف المعهود، فلولا تحول البشر إلى آلات تنفذ الأوامر، ما حكم الطغاة يوماً؛ فهم لا يحكمون بذراعهم بل بالبشر الآلات!
تقول الرواية أن آشوكا حدق في السجان بعجب وغضب، ثم أمر أن يلقى في القدر المغلي فمات مسلوقاً مثل الدجاج.
ثم إن الملك رجع إلى قصره وهو يفكر بعجائب تصريفات الأحداث؛ فلم ينم ولم يخرج عليه الصبح، إلا والرجل قد انقلب على رأسه، في تفكيره وتصرفاته، فلم يعد المنتقم الجبار، بل الرحيم الودود!!
وفي تقديري أن تحول هذا الإنسان، يمكن أن يدرس من الناحية التاريخية والنفسية، وأنا لا أستبعد أن تكون المرأة هي من حولته، فهي خزان الرحمة.
وخالفت في هذا الفاضلة الكاتبة السباعي، فكتبت أن ما غير آشوكا لم تكن امرأة، ولكنه الجندي الذي تجرأ أن يلزمه بالقانون في أرضه وفي نطاق تجبره وطغيانه.
رجل واحد تجرأ أن يقف في وجه طاغية، غيّر ما بنفسه من الخوف من الطاغية، فغير الله به الطاغية ثم غير البلاد والعباد والله أعلم.
ولكن ليس مثل المرأة أثرا في الرجل، ولا مثل الحب دواء لقسوة القلوب. وما فعله هذا الملك المتحول ـ ونتمناه لكل حكام العالم ولكن «هيهات لما توعدون»ـ فأمر أول شيء بهدم سجن الجحيم، ثم أصدر أوامره بالكف عن الحرب بتاتاً، وبدأ في حملة بناء المدارس والمشافي، بما فيها مستشفيات للحيوانات!!
واعتنق الملك مبدأ الطريق ذا الحكم أو «المراحل الثماني» التي تقول كما جاء في كتاب «الحكماء الثلاثة» لأحمد الشنتاوي: «إن هذا الطريق يتألف من المراحل التالية: الآراء القويمة، الأهداف الصحيحة، القول السديد، الأفعال الصالحة، المعيشة الصحية، المجهود المكافئ، الذاكرة بتركيز ملائم، والتأمل الباطني»، وكلها في الذكر الحكيم بكلمات مثلها أو شبهها .وهذه المراحل تؤدي إلى التنوير الكامل.
وبدأ الملك الفيلسوف يعيش ببساطة، وبنى48 ألف مركز ثقافي تعبدي للبوذيين، وأرسل اعتذارا عجيباً لقبيلة «كالنجا» عن الحرب والسلب التي بدأها معهم، وأعاد إليهم أراضيهم، وعوضهم عن خسائرهم . لم يصدق الناس عيونهم.. هل يمكن أن يتحول الإنسان إلى ملاك؟ بل أفضل فلولاه ما أسجد له ملائكته!
وفي الواقع كان آشوكا قد انقلب جذرياً، وآمن بالسلم وسيلة لحل المشاكل بين البشر، وكف عن شن أية غارة أو حرب مع الجيران أو داخل بلده، وبدلاً عن ذلك بدأ بنشر تعاليم الرحمة، وأوصى موظفيه أن يعاملوا الناس بالحب والمرحمة، وأن يعاملوهم مثل أبنائهم.
تقول الرواية أن الرجل في النهاية حصل معه كما حصل مع الإمبراطور الفيلسوف «ماركوس أوريليوس»، أو قبل ألف عام مع الفرعون المصري «توت عنخ آمون»، حيث انهدم كل أثر بعدهم، ورجعت الدولة كما كانت تمارس لعبة السيف والدم، في تأكيد أن الدول لا تبنى على الأخلاق المثالية، ولكن على احتكار العنف والانتهازية.
وإلى حين ولادة دولة عالمية تمسك مقادير البشر، وينضج الجنس البشري ما فيه الكفاية، لينعم بالسلام، تبقى القوة والحرب وسيلة الجبارين إلى أجل مسمى. ولكن أبرز ما ترك هذا الرجل، هو الذكرى العطرة في التاريخ، كما أن الفضل في نشر البوذية من سيلان إلى اليابان، هي من أثر هذا الرجل شاهداً على أثر السياسة في المذاهب.
«والله أنزل الحديد فيه بأس شديد».

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي