الصدمة البيولوجية والعاطفية
الصدمة البيولوجية يعرفها الأطباء ويشفقون منها، وقد يدخلها المصاب فلا يرجع إلا بكفن.
وفي الإسعاف يحاول الأطباء تحرير المصاب من قبضتها بأي وسيلة. وتظهر الصدمة البيولوجية بأعراض لا تغيب عن الجاهل قبل دكتور القلب والإسعاف، فترى المصاب تدور أعينه كالذي يغشى عليه من الموت. عرق بارد ونبض فاتر وضغط بائر وتداعي إلى الأرض وبدء غيبوبة عن العالم. ويعرف الأطباء الصدمة بأن مسبباتها أربعة من قلب ارتج ووهط، وتحسس من دواء وأليرجيا وصدمة ألم تحت التعذيب أو الانهيار النفسي، وفقدان سوائل ونزف دم أو عصبية بأسباب شتى، ولكنها تصب في النهاية بانهيار كامل في العضوية ورحلة باتجاه الموت، مالم يتدخل الطبيب فينجح أو يفشل، وهي الحالة المعروفة بالصدمة غير القابلة للتصليح والعودة Irreversible Shock.
وإذا كانت الصدمة البيولوجية خلفها ألم وعصب وقلب وكبد ودواء ووهط، فإن الصدمة العاطفية النفسية هي من الحجم نفسه، ومن الغريب أنها تقود للصدمة البيولوجية، فحين يخسر إنسان عزيزا أو حبيبة ينهار ويدخل حالة الصدمة.
وهناك من المواقف الصعبة ما يمكن ذكر عشرة من تلك الصدمات المهولات؛ عندما يمر الإنسان بأعنف الأزمات النفسية من إفلاس الجيب وفقدان الوظيفة أو الشيخوخة والفقر فلا يجد بجنبه أحدا يأخذ بيده ويواسيه.
أو عندما تمر السنين ويستقبل المرء أرذل العمر فينظر خلفه ليرى تبخر أحلامه وعدم تحقق شيء منها، ويرى أن جميع ما بناه ذهب أدراج الرياح! إنها أيضا صدمة.
أو عندما يموت أحب الناس إلى قلب الإنسان من ولد وزوجة ورفيق عمر وشريك حياة، إنها لحظات عارمة من التراجيديا لا يعرفها إلا من دخلها، إنها أيضا صدمة، تحتاج إلى الكثير حتى يخرج المرء من الثقب الأسود، ويستعيد توازنه، هذا إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
أو حين تطعن في ظهرك فتلفتت لترى أن من طعنك هو أحب الناس إليك من صديق عمر ورفيق عمل، وتلميذ تعبت على تعليمه 17 سنة!
ويروى عن قيصر وهو يغرغر في سكرات الموت وسكاكين مجلس الشيوخ تعتوره من كل مكان، اقترب منه من رباه واعتن به ورفعه، وإذا به مع من يطعن! قال له حتى أنت يابروتيوس فذهبت مثلا. إنها صدمة شديدة أليس كذلك؟
أو عندما تحب فتعشق لتعلم في النهاية أن من يحبك يلعب بمشاعرك؟ أو عندما تتهم أنت أو من شرفه شرفك بما ليس فيه؟ إنها لحظات جهنمية قد تقود إلى الجريمة! إنها صدمة مضاعفة تحتاج أعصاب القديسين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
أو حين تتلوث في شائعة كاذبة لتعرف أخيرا أن من روجها وحماها وسخنها ونثر بذورها هو من أقرب الناس إليك؟ ولكن الصدمة الحقيقية كل الصدمة، هي حين تودع الحياة، وتنزل قبرك لوحدك، لتواجه بما عملت، فالموت فردي وديمقراطي جدا ومسؤول وليس فيه رشوة ووساطة ومحسوبية وتدخل الرفاق وشفاعة السلطان، فهناك الحقيقة واليقين بكاملهما. حقيقة إن الموت هو أبو الفلسفة وأمها، ومنه يتعلم الإنسان دروسا كثيرة، لقد كنت مع الصيدلي الصابوني، أشرح له ثلاث أفكار يجب أن يعلمها الأب ابنه قبل كل شيء، قال هات الأولى؟
قلت: تصفية قضية الموت؛ فيعلم الجميع أنهم غير خالدين، وأنهم أموات في كل لحظة، فوجب الاستعداد لهذه اللحظة، وكأنها من مفردات الحياة!
قال: هات الثانية قلت: مبدأ هرقليطس في التغير، فليس من شيء يبقى على حاله، القوة والضعف، الفقر والغنى، العلم والجهل، الشباب والشيخوخة الحياة فالموت!
قال: هات الثالثة؟ قلت: كما كانت الحياة زائلة فالآخرة خير وأبقى.. هكذا سار السياق في سورة ق.. من أولها حتى منتهاها؛ بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب، قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج..
بعد تقديم هذه النظرية تأتي التطبيقات الكونية. أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم.. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج.. ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد .. رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتة كذلك الخروج... هكذا بدأت وهكذا انتهت.. وتتابع السورة سياقها في أمواج كونية، من الطبيعة والتاريخ وعلم النفس والآخرة وانشقاق الأرض كذلك النشور، في كل مرة تنتهي بتصفية قضية الموت أنه من مفردات الحياة، وأن الآخرة هي دار القرار، فوجب وضع كامل الإحداثيات في هذا الاتجاه.
الحياة في خدمة الموت، والموت في خدمة الحياة، في جدلية تمسك بمقبض الكون.. يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير .