امرأة تقود الحسبة بأمر ابن الخطاب
ذكر مدير جامعة الملك سعود بالرياض لوكالة الأنباء السعودية أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وافق على تأسيس كرسي للحسبة ودراساتها المعاصرة بالجامعة، وهذا يُعبِّر عن الدور المُهم لجهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن هذا الكرسي من خلال البحوث والدراسات، يسعى للارتقاء بعمل هذه الهيئة، فمتى نشأت مؤسسة الحسبة؟ وهي مؤسسة قامت في الحواضر، وهل كانت إسلامية محضة في ولادتها ونموِّها ونضوجها؟ أم أنها امتداد للمؤسسة اليونانية – الرومانية – البيزنطية المعروفة باسم Agoranomos، هذا التفسير الذي أخذ به عدد من الباحثين بتاريخ هذه المؤسسة، وبخاصة المستشرقين وبعض العرب الذين درسوا الموضوع.
وإذا كان هذا الطرح مقبولاً فيما يتعلق بالحواضر الكبرى، مثل دمشق والفسطاط وغيرهما، حيث ورث العرب المسلمون المؤسسات القائمة في الحواضر التي فتحوها، فكيف نوفِّق ذلك مع المعلومات التي توفرها لنا المصادر الأولى من أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولّى سعيد بن العاص (ت 59هـ/679م) سوق مكة المكرمة بعد الفتح، وأطّر الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب قواعد الحسبة وفرض الرقابة على المكاييل والأوزان خشية التطفيف والغش في الصناعات والبياعات، وكان يحمل درته ويتجوّل في الأسواق يؤدب الناس، ويجدر القول إنه عيّن امرأة على إحدى أسواق المدينة المنورة للقيام بهذه المهمة.
ويُشار إلى وجود مثل هذه الرقابة في البيت الحرام والكوفة والبصرة والمدائن ودمشق واليمن وأربيل، وعرفت الحواضر فيما بعد، مثل قرطبة وإشبيلية بالأندلس، هذه المؤسسة التي كان صاحبها يُعرف بلقب صاحب السوق أو ولاية السوق / خطة السوق. وعندما اتّسعت مهام صاحب السوق كان له أعوان من العرفاء والنواب والغلمان، وكانت مهمته هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنظر في الأمور التي هي ليست من اختصاص الولاة والقضاة وأهل الدين، وليس القضاء بين الناس في السوق، لأن هذا الأمر كان من اختصاص القاضي. وكان من صلاحية المحتسب إراقة الخمور، مع الحرص على سلامة الأواني، لأنها إن كُسرت فلصاحبها الحق في طلب التعويض، وكسر المعازف وإصلاح الشوارع ومراقبة الحمامات خشية استغلالها لغير الوجوه الشرعية، بل كان من صلاحيات المحتسب مراقبة المساجد والتأكد من إقامة الصلاة، وعدم إطالة الخطبة.
والمعلوم أن مصطلح “محتسب” و”حسبة” لا يردان في القرآن الكريم ولا في المعاجم المشهورة مثل “لسان العرب” و”تاج العروس”، وتناول الفقهاء هذا الموضوع ضمن تناولهم مؤسسات الدولة، فهي ولاية شرعية ووظيفة دينية ينتدب الإمام إليها من يراه مناسباً، كما جاء ذلك عند الإمام علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي (ت 450هـ/1058م)، صاحب “الأحكام السلطانية” الذي عرّف الحسبة بأنها: “الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله”، وأوضح الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م) في كتابه “إحياء علوم الدين” أهمية هذه الوطنية، كما جاء من بعده في رسالة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) في الحسبة، كما تناول ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) هذا الموضوع الخطير في مقدمته المشهورة؛ وجميع هذه الكتب العامة تنطلق من الآية القرآنية الكريمة - وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران، آية 104).
وظهر صنف آخر من التأليف في الموضوع أكثر عمقاً وشمولاً وتخصصاً، وهي كتب الحسبة التي تتناول المهام بالتفصيل، سواء في السوق أو الحمامات أو عند الصيارفة والعاملين في دار الضرب، خشية غش العملة الرائجة من الدنانير والدراهم بالنحاس، وامتد الأمر لمراقبة الصاغة، والتركيز بشكل عام على المؤن واللحوم والخبز، أي أقوات الناس. ومن هذه المؤلفات “نهاية الرتبة في طلب الحسبة” لعبدالرحمن بن نصر الشيرازي (ت 589هـ/1193م( وتقي الدين أحمد بن تيمية، صاحب كتاب “الحسبة في الإسلام”، وتطول القائمة لتذكر محمد بن محمد ابن الأخوة القرشي (ت 729هـ/1329م)، صاحب كتاب “معالم القربة في أحكام الحسبة”، وكان من مهام المحتسب مراقبة الأخلاق العامة لضمان عدم تجاوز الجمهور، أو بعض أفراده، عليها.
والجدير بالذكر أن المحتسب وأعوانه من العرفاء العاملين معه وغلمانه، كانوا يتقاضون رواتبهم وأرزاقهم من بيت المال، وأصبح منصب المحتسب في العهد المملوكي يلزم لمن يدفع أكثر، لذا بدأت الخروق تدبّ في أوصال هذه المؤسسة الرقابية، وربما يفسّر لنا هذا الأمر أن كُتّاب الموسوعات في العصر المملوكي وضعوا نماذج في تقليد من يتولى هذا المنصب، توضح كفاءاته ومهامه واختصاصاته بحيث لا تتعارض مع صلاحيات القاضي. والجدير بالذكر أن الفرنجة، أثناء احتلالهم لسواحل بلاد الشام وإقامة مملكة لاتينية لهم عاصمتها القدس قد عرفوا هذه المؤسسة العاملة في الحواضر الإسلامية التي احتلوها فأبقوا عليها، وتشير إليها المصادر اللاتينية باسم Mathessep، ولقد اختفى في عهد الدولة العثمانية مصطلح محتسب، وتذكر القوانين نامة الاحتساب بدلا من ذلك مصطلح احتساب.
وليس واضحاً لدينا فيما إذا كان صاحب الاحتساب قد قام بالمهام الرقابية التي كان ينهض بها المحتسب، لأن مجموعة القوانين التي تنظم عمل السوق كانت تُعرف باسم احتساب قانون ليري، وكان متوليها مسؤولاً عن جمع الرسوم من الأسواق والخانات والوكالات، مثل رسم القبان ورسم الذبيحة أو النحيرة كما تُسمى، والرسوم في دار الخضر ورسوم بازار الرقيق وبازار الأسرى ورسوم أسواق الدواب والأغنام والغلة والمصابغ وميزان الحرير ودكان الطير والحمامات ودار الضرب.. إلخ. وكما أن أدبيات المحتسب تقدم لنا صورة عن أسماء الأسواق في المدينة الإسلامية واختصاصاتها، حيث كان المحتسب يحتفظ بأسماء أصحاب الدكاكين، وبقائمة السلع التي تُباع فيها، ومثل ذلك كان يتوفر لدى صاحب الاحتساب مثل هذه البيانات، وليس بالضرورة أن يكون صاحب الاحتساب في العصر العثماني من رجال الفقه أو القضاء بمقدار ما يكون متمرساً في أحوال السوق، ومن هنا نفهم أن الأمر في بعض الأحيان كان يوكل إلى رجال الشرطة، المعروفين باسم السوباشية.
وأصبح هذا المنصب يلزم عند العثمانيين مثل عدد من المناصب التي تتولى جمع الضرائب والرسوم حتى عام 1242هـ/1826م، عندما انطلقت حركة الإصلاحات الخيرية في الدولة، وأصبح هناك نظارة – ما يساوي الوزارة – للاحتساب، ولكن هذا الترتيب لم يُعمر طويلاً، فبعد ثمانية وعشرين عاماً أُلغي المنصب وحُوِّلت الصلاحيات إلى أمناء المدن، وبالتالي إلى البلديات بعد قيام مؤسسة البلديات بالدولة العثمانية، استجابةً لمطالب الدول الأوروبية التي كانت تلح على المسؤولين العثمانيين بإصلاح الدولة، وذلك بالأخذ بالنموذج الأوروبي.
وهكذا نجد أن مؤسسة الحسبة الإسلامية الأصيلة عايشت التحولات الاقتصادية والاجتماعية وتنظيمات الأصناف وأصحاب الحرف في المدينة الإسلامية، وحُرمت من رقابتها القرية والبادية، فلمن كان يلجأ أهل الريف والبادية؟