مطلوب إعادة النظر في الاستراتيجيات والأولويات الاقتصادية للمملكة

مطلوب إعادة النظر في الاستراتيجيات والأولويات الاقتصادية للمملكة
مطلوب إعادة النظر في الاستراتيجيات والأولويات الاقتصادية للمملكة
مطلوب إعادة النظر في الاستراتيجيات والأولويات الاقتصادية للمملكة

دعا الخبير الاقتصادي الدكتور عبد العزيز بن محمد الدخيل، إلى وجوب إعادة النظر في الاستراتيجيات والأوليات الاقتصادية للمملكة بما يمكن من إعادة تشكيل الواقع الاقتصادي الحالي ليخدم في الدرجة الأولى مستقبل الأجيال المقبلة أو ما اسماه «جيل ما بعد النفط».

وتحدث الدكتور الدخيل خلال استضافته في نادي «الاقتصادية» الصحفي أخيراً عن أهم التحديات المستقبلية التي قد تواجه الاقتصادي السعودي، المتمثلة في نضوب النفط، النمو السكاني، شح المياه، التعليم، الصحة، الزراعة، والصناعة وواقع الصناعة النفطية والبتروكيماوية تحديداً، معتبراً أن جميع هذه العناصر ستمثل تحدياً كبيراً سيواجه الاقتصاد السعودي في المستقبل، مشدداً في الوقت ذاته على أهمية الاستثمار في العنصر البشري باعتباره المحرك الأساس في تنمية الحاضر والمستقبل.

#2#

ولفت الدكتور الدخيل خلال اللقاء الذي حضره نخبة من المهتمين والكتاب الاقتصاديين إلى أن طريقة حساب الدخل القومي لا تعكس الواقع الاقتصادي الحقيقي للمملكة من حيث إن النفط يمثل نسبة كبيرة من هذا الناتج سواء بطريقة مباشرة من خلال الإسهام في تمويل ميزانية الحكومة السعودية أو بطريقة غير مباشرة من خلال إسهام مضاعف الإنفاق الحكومي أو القطاعات الاقتصادية الأخرى المعتمدة على النفط في الناتج المحلي الإجمالي الحكومي، حيث يرى أن الناتج الحقيقي الواجب تضمينه في حساب الناتج المحلي الإجمالي هو ما يمثل إنتاجاً حقيقياً فقط وهو ما لا ينطبق على الصناعة النفطية الاستخراجية التي تمثل استهلاكاً وليس إنتاجاً لمنتج معين وبالتالي يجب عدم تضمينها في حساب الناتج المحلي الإجمالي.

إلى تفاصيل اللقاء:

بداية سأتناول في هذه المحاضرة مجموعة من الرؤى فيما يتعلق بالمستقبل الاقتصادي للمملكة ونركز على الاستراتيجيات واستشراف المستقبل. الزمن في مداه القصير مهم من ناحية البرامج، لكن البرامج لابد أن تكون جزءا من بعد استراتيجي ونظرة طويلة الأمد، خصوصاً عندما يكون الاقتصاد قائما على عمود واحد أو قائما على فاعلية اقتصادية واحدة متناقضة في طبيعتها. لذلك فإن السؤال المهم هو : كيف سيكون وضع الاقتصاد السعودي بعد انقضاء عصر البترول؟ هذا السؤال مشروع لأننا نتكلم عن عمر أمة وعن اقتصادها. سأمر مرورا سريعا على الأزمة المالية العالمية، فهذه الأزمة حديث الساعة، لما لها من انعكاسات على وضعنا الاقتصادي.

عندما انفجرت الأزمة المالية العالمية، فإنها سقطت أولاً على المؤسسات المالية والقطاع المصرفي في الولايات المتحدة، ومن ثم انتشرت إلى بقاع المعمورة بادئة بتلك الأسواق المالية ذات العلاقة الوطيدة بالسوق الأمريكية.

نقلاً عن تصريحات المسؤولين في السعودية، فإن البنوك السعودية في وضع مالي جيد، كما أن مؤسسة النقد العربي السعودي «البنك المركزي» يوفر ويدعم السيولة المتداولة ما بين مؤسسة النقد والبنوك.

إذا سلمنا أن الملاءة المالية للبنوك جيدة وأنها قادرة مالياً على الاستمرار في ضخ القروض والتسهيلات المالية إلى قطاعات الاقتصاد الأخرى، فهل استمرت البنوك السعودية في تقديم القروض للقطاع الخاص بعد الأزمة كما كان عليه الأمر قبل الأزمة.

يبدو أن وزارة المالية ومؤسسة النقد العربي السعودي تجاهلت هذا الأمر أو أنها لم تعطه الاهتمام اللازم.

وفي هذا المجال لا بد من إيضاح أمرين: الأول أن البنوك التجارية ليست مؤهلة إلا للإقراض قصير الأجل، أما الإقراض طويل الأجل فيحتاج إلى شيء من الضمان الحكومي نظراً لغياب سوق للسندات الخاصة أو الحكومية التي تؤسس لعمليات إقراض طويلة الأجل، والثاني: هو أن الأزمة المالية العالمية وما ولدته من انكماش في الاقتصاد العالمي قد زادا من حجم المخاطر للإقراض.

وبناءً عليه قامت البنوك السعودية بتقليص عمليات الائتمان والقروض أو عدم تجديدها في الوقت الذي كانت فيه الشركات والمصانع السعودية في الحاجة إلى هذه الأموال لتواجه تداعيات الأزمة المالية العالمية وأثرها في تخفيض مبيعاتها وفي إنقاص قيمة أصولها واستثماراتها. وربما يكون هذا الأمر هو أحد أسباب أزمة الإفلاسات التي بدأت تطل علينا برأسها في بعض الشركات المحلية.

وقد تكون هناك أسباب أخرى تتعلق بسوء الإدارة المالية للقروض والتسهيلات الائتمانية. لكن مما لاشك فيه أن هناك جزءا كبيرا يعود إلى آثار هذه الأزمة على متانة الميزانية العمومية للمصانع والشركات الوطنية، بسبب أثر الأزمة في حجم المبيعات أو في قيمة الأصول. إن عدم قيام الدولة ممثلة في وزارة المالية ومؤسسة النقد العربي السعودي في التصدي لآثار المشكلة منذ بدايتها ودراسة المشكلة والدخول كفاعل في تقدير حجمها وكيفية معالجتها والنظر في إمكانية إحلال قروض طويلة الأجل بدل القروض قصيرة الأجل سيفاقم المشكلة ويطيل من عمرها ويعمق من أثرها في القوة وفي الانتشار.

البنوك تقدم لهذه الشركات قروضا قصيرة الأجل تجدد في أيام الرخاء والطفرة كلما حل أجلها وعندما وقعت الواقعة وانفجرت الأزمة المالية العالمية توقفت البنوك عن التجديد، إما لازدياد حجم المخاطر أو بسبب توقف الشركات عن دفع الفوائد المستحقة أو القرض.

هذه الإشكالية التي نراها الآن تطفو على السطح في الاقتصاد السعودي على الدولة أن تبادر بمحاصرتها قبل أن تنتشر، حتى لا تمتد آثارها وتطيح بالصالح والطالح، وتثير موجة من التشاؤم والانكماش في الاقتصاد السعودي.

#3#

أنا هنا لا أنادي بأنه كل من أفلس فعلى الدولة أن تأتي وتحميه ففي ذلك هدر للمال العام في غير محله، وإنما أقول إن الشركات والمصانع الوطنية ذات الجدوى الاقتصادية الجيدة والتي لها ارتباط وعمق اقتصادي مع القطاعات الاقتصادية الأخرى وتوفر دعماً لتوظيف السعوديين وتدريبهم، على الدولة واجب دعمها لتتجاوز هذه الأزمة المالية العالمية، حماية للاقتصاد الوطني ودرءاً لخسارة عامة أكبر ، تتعدى حدود الخسائر الخاصة.

الآن وبعد أن مررت مرور الكرام على تداعيات الأزمة المالية العالمية وبعض آثارها في الاقتصاد السعودي، أعود إلى الموضوع الذي حضرنا من أجله وهو الاقتصاد السعودي.

إلى أين نحن ذاهبون وما هو المستقبل؟ هذا هو السؤال ذو البعد الطويل الأمد والذي يعتبر ملحاً بالنسبة إلى الأجيال القادمة.

ومن أجل ذلك دعوني أستعرض بشكل سريع الجذور الأساسية للاقتصاد السعودي ، وأتساءل عن جوهر اقتصادنا وقدراته ومقوماته الأساسية، ثم نستقرئ المستقبل، لنرى إن كانت هذه الأسس سليمة وقوية وقادرة على إنتاج الحياة بشكل مستمر، أم أنها أسس وقواعد متناقصة فانية ستنتهي يوماً ما دون بديل يحل محلها. لنلقي نظرة سريعة على أمور أساسية لا بد من النظر إليها، ونحن نفكر في استراتيجية طويلة الأجل للاقتصاد السعودي.

الأمر الأول النفط : النفط هو العمود الفقري الذي يبنى عليه كل شيء، وحيث إن للبترول عندنا عمراً محدوداً، يقدر حالياً بنحو 70 عاماً، فإن السؤال المطروح، وماذا بعد عصر البترول؟

سبعون عاماً أو ما يزيد ليست عمراً طويلاً في عمر الشعوب، فهل نحن نعيش اليوم رغداً من العيش من أجل أن تعيش الأجيال القادمة حياة من الفقر. هذا سؤال لا بد أن نطرحه ويجب أن نفكر فيه، وإن كان التخطيط الاستراتيجي مهم لكل الدول فإنه بالنسبة إلينا مهم جداً جداً.

لدينا احتياطي كبير من النفط ونحن نعتبر ثاني دولة في العالم من حيث الاحتياطات النفطية فلدينا ما يقدر بنحو 270 مليار برميل من الاحتياطي المؤكد.

في أدبيات البترول هناك الاحتياطات المؤكدة والاحتياطات غير المؤكدة، كما أنه قد تظهر استكشافات جديدة تضاف إلى أي من الاحتياطيين، ومن المعروف أن الجغرافيا السعودية قد مسحت بشكل جيد واحتمال وجود حقول بترولية كبيرة ضئيل ولكنه غير مستحيل.

من المؤكد علمياً أن خام البترول تكوّن بفعل الحركة الجيولوجية منذ آلاف السنين، ولا يمكن إنتاج برميل واحد من خلال أي تركيب عضوي أو غيره، نعم يمكن اكتشاف حقل جديد في باطن الأرض، لكن لا يمكن على الإطلاق إنتاج برميل واحد.

إذن نحن أمام حقيقة اقتصادية تقول إن هذا الرصيد الموجود لدينا من خام البترول هو رصيد يتناقص بالاستخراج الذي يصل اليوم إلى ثمانية ملايين برميل يومياً.

سبعون عاماً أو مائة عام أو أكثر أو أقل ، يجب أن تكون حجر الزاوية والركن الأساسي في التخطيط الاستراتيجي لبناء قواعد جديدة لاقتصاد مستقبلي يستطيع الاستمرار في دعم مستوى الدخل والاستهلاك لمواطني الأجيال القادمة عندما ينتهي النفط أو يصبح سلعة بلا سوق أو سوقا ضعيفة جداً.

الأمر الثاني السكان: والمقصود به المواطنون الموجودون على هذه الأرض، فعدد سكان المملكة يقدر اليوم بنحو 24 مليونا، منهم 19 مليون سعودي والباقون وافدون، هذه المجموعة البشرية لها صفات معينة، يأكلون ويشربون، ويتوالدون بنمو سكاني كبير، فما بين عامي 1975 و2004م وصل معدل النمو السكاني إلى بنحو 4 في المائة، وهذا مستوى عالمي، ويقابل النمو السكاني ويسير معه نمو في الاستهلاك الذي ارتفع وزاد بدفع من الثروة البترولية وزيادة الدخل حتى أصبحنا أمة تستهلك أكثر مما تنتج.

فشكراً للمستخرج من البترول الذي يدعم استهلاكنا، ولم نبق منه على مستوى الأفراد أو الحكومة إلا النزر اليسير للادخار وللمستقبل.

الأمر الثالث المياه: السعودية شبه قارة تساوي مساحتها ثلثي مساحة الولايات المتحدة الأمريكية، تغطي الصحراء معظم أراضيها وتشح فيها الأمطار والمياه السطحية والجوفية، لا أنهار فيها ولا ينابيع. وفي ظل تزايد السكان الكبير وأمام شح المياه فإن المملكة تواجه معضلة اقتصادية تحتاج إلى تخطيط استراتيجي للتعامل معها.

فالمياه إشكالية ضخمة وكبيرة على مستوى العالم بشكل عام والمملكة تحديداً وعندما ينتهي الماء تنتهي الحياة فهذه سنة الحياة. المياه الموجودة في السعودية محدودة جداً وهي من ثلاثة مصادر الأول: المياه الجوفية العميقة التي تمتد من الأردن في الشمال الغربي من المملكة مروراً بوسط الجزيرة العربية حتى الجنوب الشرقي. هذه المياه الجوفية ذات الأبعاد العميقة محدودة في كمياتها وتشكل ثلثي المياه الباطنية في المملكة. وهي لاتصل إليها مياه الأمطار لأنها على أعماق بعيدة في الطبقات الجيولوجية.

والثاني: هي المياه السطحية ومعظمها موجود على الساحل الغربي وفي تهامة. وتغذي هذه الآبار السطحية مياه الأمطار وتشكلت نحو ثلث المياه الجوفية في المملكة.

والثالث:المياه المحلاة من محطات تحلية المياه المالحة، إضافة إلى عمليات تنقية مياه الصرف الصحي. المياه من جميع هذه المصادر محدودة ولا تقارن بالحاجة الكبيرة إلى المياه لجميع الاستخدامات خصوصاً على المدى البعيد. إن موضوع المياه موضوع خطير ومهم للمستقبل لكنه إلى الآن لم يأخذ مكانه السليم في المعادلة الاستراتيجية للاقتصاد الوطني والتنمية.

الأمر الرابع الإنسان: الإنسان هو كما يقال هدف التنمية ووسيلتها، وإن كان العنصر البشري في منظومة التنمية المستدامة مهم فإنه في هذه الجزيرة العربية الفقيرة إلى كل الموارد الطبيعية ما عدا البترول هو الأهم. الاستثمار في الإنسان يقوم على الاستثمار في تطوير وتنمية عقله، وهذا يقوم على التعليم، ولكي يكون العقل قادراً على التعليم فلا بد أن يكون جسم الإنسان صحيحاً، فكما يقال «العقل السليم في الجسم السليم». المواطن في المملكة العربية السعودية لم تهيأ له أفضل المواد التعليمية وأفضل المدرسين وأفضل المعاهد والمعامل للتحصيل والتعليم.

البعد كبير بين واقع التعليم ومواده ومخرجاته وبين متطلبات الحياة على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والفنية. كما أن المواطن لا يزال في حاجة إلى خدمات صحية جيدة سواء بالنسبة إلى شموليتها لكل الأفراد وفي كل المناطق أو بالنسبة إلى نوعيتها.

الاستثمار في الإنسان تمتد نتائجه وآثاره الإيجابية إلى كل الأبعاد، فكلما كان الرجل والمرأة على مستوى عالٍ من القدرة العلمية، والصحة، كلما أثر ذلك تأثيراً مباشراً في حياته المادية والفكرية والحضارية، وانتقل الأثر من الذات إلى الأبناء وإلى العائلة وإلى الوطن.

أمام المملكة فرصة زمنية محدودة وإن كانت سنينها عديدة لبناء الإنسان الذي سوف يبقي الحياة على هذه الأرض عندما ينتهي البترول أو تجف الآبار. سبعون عاماً أو يزيد ليست عمراً طويلاً في زمن الشعوب.

هذه أمور مهمة جداً واستراتيجية يجب الإعداد والتخطيط لها، مادام في الوقت فسحة ومادام البترول له السيادة في سوق الطاقة. وأخشى أن يضيع الوقت ونحن مشغولون في إنفاق الأموال من استهلاك النفط في المتعة والاستهلاك، دون إعطاء أهمية لعملية الادخار والاستثمار لبناء رأسمال وطني بديل يحل محل النفط بعد أن ينتهي سوقه وزمنه.

وأود أن أختم هذا اللقاء بكلمة فيما يتعلق بحساب الدخل القومي الذي تعتمد عليه الخطط الخمسية وبيانات الميزانية وغيرها، وأقول إنه علينا أن نعيد النظر في طريقة حساب الناتج الإجمالي في حسابات الاقتصاد الوطني. فاستخراج البترول من باطن الأرض ليس إنتاجاً وإنما في الحقيقة هو استهلاك لرأسمال قومي.

وهذا ما يجب أن يعلمه صاحب القرار السياسي والمواطن العادي، ليعرف الكل إنما نتمتع به من دخل وإنفاق أن هو في الحقيقة استهلاك لأصول موجودة في باطن الأرض تتناقص يوماً بعد يوم. يجب أن تكون الحسابات البترولية مبنية على نظرية رأس المال أو نظرية المخزون وليس على نظرية الإنتاج، لأن الإنتاج هو تفاعل رأس المال والعمل والتقنية في إنتاج سلعة ما أو خدمة ما، والنفط ليس سلعة تنتج لأنه موجود تحت الأرض أنتجته الطبيعة والعوامل الجيولوجية منذ آلاف السنين، مساهمتنا محدودة فقط على استكشافه واستخراجه.

وحيث إن الأمر بالنسبة إلى النفط لا يعدو في مجمله إلا عملية استهلاك، وحتى لا يأتي يوم ينتهي فيه النفط دون أن يكون لدينا بديل من رأس المال الوطني المنتج، يأخذ الدور الذي يلعبه البترول في حياتنا من حيث كونه مصدراً لتمويل عمليات الاستهلاك والإنتاج، فإنه من الضروري جداً، تفعيل عملية الادخار سواء على المستوى القومي (الحكومي) أو على المستوى الفردي.

والادخار يجب أن يتحول إلى استثمار بديل، وأهم استثمار وبديل للنفط المتناقص هو الاستثمار في الإنسان، من أجل رفع وتعزيز إنتاجيته وإبداعه وعلمه وثقافته وصحته وتطوره الفكري والإبداعي إلى جانب الاستثمارات المادية الأخرى.

الأكثر قراءة