نظرة سوداوية للصداقة والصديق في عالم مفعم بالمادية

نظرة سوداوية للصداقة والصديق في عالم مفعم بالمادية

لم يدر في خلد «أبي حيان التوحيدي» حين ألّف كتابه الموسوم بـ»الصداقة والصديق» الذي ضم شواهد بديعة، وقصصا فريدة عن الصداقة وما يمت لها بصلة، أن تفضي الأمور إلى ما نقله لنا بعض قرائنا من سوداوية لواقع هذه الصداقة، في ظل عالمٍ رأوه مفعما بالمادية التي أثّرت وبلا شك في طبيعة الحياة الاجتماعية ككل، اختفى وراء ستارها عدد من المعاني الإنسانية التي سطّر لنا الرواة كأبي حيان وغيره من المتقدمين والمتأخرين قصصا وحكايات لا نملك حيالها سوى الانبهار إعجابا، والوقوف إجلالا، يد المادية طالت ما كان في الأصل محسوبا كضلع رئيس في مثلث المستحيلات الثلاثة ألا وهو «الخلّ الوفي» الذي عزّ وجوده حتى قالت العرب: ما أقعدنا عن طلب الصديق إلا اليأس من وجدانه.
تساءلنا إن كنا في واقعنا نستند إلى حائط صلب من كتل الأصدقاء الوفيّة، يحس بعضنا ببعض، نتقاسم الآلام والأحلام، تضيق صدورهم فتتسع قلوبنا، تنكأنا الجروح فيشعرون بالألم.
متصفحو «الاقتصادية الإلكترونية» أمسكوا عن نقل التجارب الشخصية، وخاضوا في تصورهم لمفهوم الصداقة على مذاهب عدة، ولعل مردّ هذا إلى اختلاف المراجع التي اعتمدها كلٌ منهم لمفهوم الصديق، فهذا اعتمد التصور الشرعي، وذاك بنى رأيه عطفا على الصورة النمطية للصديق ككاتم للأسرار تحدثه بما يجول في داخلك، وتسبر أغوار نفسه، إلى آخرين اعتمدوا صورة غريبة كصداقة الشخص لنفسه، وأنانية بعض الشيء كصداقة المنفعة، وهو وإن كان مفهوما انعزاليا في رأي البعض إلا أن لكل بضاعةٍ تاجر.
القارئة «نوال المطلق» أمسكت بدءًا بزمام الحديث فقالت:الإنسان مخلوق اجتماعي، وليست الصداقة تبادلا لكشف الأسرار، ومعرفة النوايا، وإدراك الخفايا، كما يظن الظانون، بل هي صدق متبادل وترك للعتب واللوم، وأجملها وأنقاها ما خلت منه المصلحة، وقُدمت فيه النصيحة، وهُجرت الفضيحة، وكما قيل:
تعاهدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوعٌ من التوبيخ لا أرضى استماعه.
«حساوي» خالف الطرح أعلاه، مبيّنا أن هذا الزمن شهد تغير مفهوم الصداقة. فالصديق يشعرك بأهميتك ويحاورك بكل ما يخطر في باله، ويبادلك الأسرار. ويقف معك في المصاعب. وأطلق نظره بعيون قاتمة لقادم السنين، ورآها تحمل تدهورا لمفهوم الصداقة، معللا رؤيته بالأزمات المالية التي ستكون الشغل الشاغل، وحديث المجالس والجالس، فلا تسمع إلا أصوات الشكوى تئن من الغلاء ومن قلة ذات اليد..إلخ. لتناقش كل همٍّ إلا همَّ الأخوة والصداقة.
القارئ الذي وصف نفسه بالـ»الصديق» قال إن الخصائص التي تجمع اثنين، والهوايات والاهتمامات المشتركة، مدعاةٌ لتكوين صداقة يرجى لها الدوام، والصديق لا يظهر كنه معدنه إلا حين يُختبر، فالأصدقاء وقت السراء كُثر، وهم عند إدبار الدنيا «قليلٌ ما هم»، فالصديق هو المحب في الله، وهو أخوك الذي لم تلده أمك، وعلى هذا وباقتضاب وافقت «أروى جادي» الكاتبة في الاقتصادية الإلكترونية. وهما بهذا ينطلقان من جانبٍ شرعي، فالإسلام تناول الصداقة بمعنى أشمل وأسمى، فجاءت الأحاديث التي تحث على فضل الحب في الله كمرتكز تنبثق عنه الصداقة ومعيار يعرف به الصديق من غيره، فما المؤمنون في شريعة الله إلا إخوة، وحث الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - على مصاحبة الأتقياء فقال: «لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي»وقال عليه السلام «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» وهو التوجه الذي تبنّاه قارئنا «إبراهيم».
القارئ «مواطن» قال : لا شك إننا في زمن أصبح فيه الخل الوفي أعز وجودا، وأعظم ندرة من أزمنة مضت، وهذا يتطلب التشبث بأي صديق وفيّ والصبر عليه إن بدا ما يوجب العتاب، والنظر بعين الرضا الكليلة عن مشاهدة العيب والنقص، وطابق هذا ما أُثر عن الفاروق قوله « إذا رزقكم الله عز وجل مودة امرئ مسلم فتشبثوا بها».
«نايف فياض الفرملي» لم يشذ عن القراء في توصيفه لاندثار الصداقة وغياب الصديق، وأخبرنا أن الصديق هو ذاك الذي تميزه الأمانة بالمعنى الشمولي للكلمة، فهو أمين في نقله، وفي رأيه، وفي نصحه، يصدُقك ويصدّقك، يظهر على لسانه حسن الإبانة، وعلى خلقه أثر الديانة، وسُبق لهذا شعرا، فقد قيل «ترى الخوي يا حسين مثل الأمانة».
محمد الحداد عرّف بجملة وحيدة معنى الصديق فقال: «هو أنت إلا أنه غيرك»، فاقتصر بعبارته عن توضيح أن شخصا يحمل طموحك، ويملك آمالك، ويتوجع بآلامك، يشاركك الدعوات، تسره مسرّاتك، وتسوؤه مضارك، وهو رغم هذه التوأمة الفكرية والعقلية ليس أنت، كان هو الذي يصح إطلاق لفظ الصديق عليه، فهما « روحٌ في جسدين».
مثال آخر بالغ البساطة تناولته مع الزميل «عبد الرحمن الغامدي» الذي قال إن هاتفه يمتلئ ببضع مئات من أرقام الهواتف، ولكنه حين النوائب والملمات لا يتوجه سوى إلى رقم وحيد، والمثال على بساطته يوضح أن ثمة حدا فاصلا بين المعارف والزملاء وبين الأصدقاء.
آخرون نقلوا أن دوام العشرة يوجد تطابقا في الأفكار والتوجهات، فترى الأخلاء يعيشون خيالا مشتركا، كلمةٌ تخرج من فم أحدهم هي على طرف لسان الآخر، بل إن البعض قال إن خير الصديقين ينقل أفضل سجاياه لصاحبه، فيما يكتسب هو أسوأ ما لدى الآخر في معادلة تخلق التوازن بينهم، فهم في رحلة تقارب مع امتداد الزمن تنتهي بشخصين على قدر كبير من التشابه، والرؤية رغم أنها فلسفة نظرية لكن لها في الحياة شواهد متواترة.
«خالد بشير» قال إن زمن الصداقات التي يتحدث عنها القراء ولى إلى غير رجعة، فالواحد منا بمجرد تخطيه سنوات الطفولة يودع صداقاته الحقيقية، ويخلّف وراءه البراءة، ويدخل عالم محموما تكثر فيه الصراعات على مستوى الأفراد والجماعات، فهو في ساحة وغى لا يهدأ له بال، وهو صديق نفسه، وصديق منفعته، يتحرك أينما تحركت، يميل مع ميلانها، لأن التجارب أورثت طعنات لا تندمل آثارها ولا تبرأ جراحها، فالمجتمعات في عصرنا هذا يحكمها الطابع العملي بعيدا عن العاطفة، وعدو اليوم صديق الغد إذا حكمت المصلحة، والعكس بالعكس، والانسياق وراء الوهم لا يُنتج سوى الوهم.
ختاما ، واتساقا مع نتائج مجلس «الاقتصادية الإلكترونية» نجد أنه من الواجب علينا أن نتساءل: ما الداعي أن ينظر البشر عند نقاش أي أمرٍ يتناول أحوالهم إلى الجانب المظلم، والنصف الفارغ من الكأس، وتتسابق التهم لتطول من لا مدافع عنه، فلسانهم يلهج بعيب الزمان، وتحميله وزر ما يعانونه من مرارة العيش، وقساوة الواقع، وينشغل كل منهم بالدفاع عن ذاته، ونقل للتهمة للآخر، كأبسط حلٍ لنفيها عنه، فهو يرى القذاة في عين غيره، وينسى الجذع في عينه، وكأنه يحصر نفسه في الجانب الملائكي المعصوم عن الزلل والذي يبحث عن المثالية، ويزعم تطبيقها، وينشد تعميمها. فإذا كان كلنا هذا الإنسان الملائكي، فمن هم أعوان الشيطان، ومن يقف في صف الشر؟!

عدد القراءات: 1443

الأكثر قراءة