صعوبة الإصلاحات الاجتماعية
كل الأشياء لها دورة عجيبة روتينية ثابتة من دورة الحياة، فكما يصعد الماء نقيا إلى السماء، ثم ينزل ماء نقيا فيسقي أنعاما وأناسي كثيرة، وتخضر الأرض وتدب فيها الحياة، كذلك الأنظمة الاجتماعية تبدأ فتية مثل حياة أحدنا، ثم تموت وتصعد الروح إلى المكان الذي جاءت منه، ثم إلى ربكم ترجعون.
ومن قصص هذه الدورات العجيبة نظام ساد واستوى على سوقه، ثم ضعف وزال، ولم ينتبه له أصحابه أنه ميت؛ فأرادوا المحافظة على الجثة مع قباحة رائحتها وهكذا ففي 27 أيار (مايو) من عام 1807 للميلاد ثار الانكشارية في استنبول، برئاسة رجل منهم اسمه قباقجي أوغلو على الإصلاحات، التي قام بها السلطان سليم الثالث، ولم يكن منها بد؛ فقد بدأ نظام الانكشارية بالترهل والهرم، فعمدوا إلى قدورهم فنكسوها، علامةً على العصيان، وكانت هذه عادتهم للمطالبة برفع الرواتب أو الاعتراض على شيء، ثم قرؤوا أسماء الساسة المؤيدين للنظام الجديد فقتلوهم، ثم احتزوا رؤوسهم فجعلوها بجانب القدور. عبرة لمن يعتبر، وخلعوا السلطان ونصبوا بدلاً منه مصطفى الرابع.
والذي حدث بعد هذا التاريخ بتسعة عشر عاماً 1826 م أن مصير الانكشارية ختم بدون عودة؛ فتم حصدهم بالمدفعية على يد الصدر العالي قره جهنم أي جهنم السوداء في زمن السلطان العثماني محمود الثاني، الذي قضى في ضربتين متلاحقتين على الانكشارية في الأستانة، ثم المماليك في العراق لاحقاً عام 1831 م، بعد أن كان مصير المماليك قد قرر بدوره في مصر على يد محمد علي باشا، قبل خمسة عشر عاماً 1811 م، بعد أن بقي نظامهم واقفاً على قدميه يعيد إنتاج نفسه لأكثر من أربعة قرون.
لقد حاول المؤرخ البريطاني توينبي تحليل عمر الخلافة العثمانية وصمودها عبر القرون من خلال مؤسسات راسخة، مثل نظام الانكشارية العسكري الذي كان العمود الفقري فيها، وعزى في قسم كبير منه إلى نظام التعليم العثماني المتميز المتفوق في عصره.
ويشرح توينبي ذلك من ملاحظات أدلى بها سفير أجنبي عاش قريباً من بلاط السلطان سليمان القانوني فيقول ـ والكلام هنا لتوينبي ـ : «ولدينا وصف شائق تفصيلي لهذا النظام التعليمي إبان ازدهاره كتبه معاصر له العالم الفلمنكي والدبلوماسي سليجير جيزيلين دي باسبيج الذي كان سفيراً لبلاط هابسبرج لدى سليمان الأعظم، ولقد جاءت استنتاجاته في وصف العثمانيين مناهضة لأساليب المسيحية الغربية المعاصرة فكتب يقول: حسدت الأتراك على نظامهم هذا.
إنه أسلوب الأتراك دائماً عندما يوفقون إلى اقتناء رجل كريم الخصال إلى حد غير عادي، فتجدهم يطربون ويسرون غاية السرور، كما لو أنهم قد عثروا على لؤلؤة غالية الثمن، ويبذلون في سبيل إبراز جميع مواهبه كل ما يسعهم من الجهد والفكر، لاسيما إذا رأوا فيه كفاية عسكرية. ولا ريب أن طريقتنا الغربية تختلف عن ذلك كل الاختلاف، إذ نسر في الغرب إن حصلنا على كلب أو شاهين أو حصان ممتاز، ولا ندخر أي شيء في سبيل الوصول بهذا المخلوق إلى أسمى درجات الكمال التي يقيض لفصيلته أن تبلغه.
أما بالنسبة للإنسان؛ فإذا وفقنا إلى العثور على رجل ذي مواهب تلفت الأنظار فإننا لا نجشم أنفسنا إطلاقاً نفس المتاعب، ولا نعتبر أن مسألة تعليمه مسألة تهمنا بصفة خاصة؛ وبالأحرى نحصل نحن الغربيين على الكثير من أنواع المتعة والمنفعة من حصان أو كلب أو شاهين مدرب تدريباً جيداً، بينما يجتني الأتراك من رجل هذَّب التعليم خلقه، على منفعة أعظم مدى يتيحها تسامي الطبيعة البشرية وتفوقها على بقية المملكة الحيوانية»
يمتاز المجتمع الإنساني عن مجتمع النمل والنحل بأنه يتطور؛ فهذا قانون الصيرورة الذي يسود الوجود، ويهيمن على العلاقات بدءًا من الفكرة وانتهاءً بالإمبراطورية، ومن حيوان الخلد إلى أعظم الحضارات.
ولا يشترط الانتقال من مرحلة إلى أخرى أن يتظاهر بالانفجارات والثورات، بل يعتمد في الغالب قانون التغير التدريجي، فإذا بلغت التراكمات حداً لا يمكن حبسه انفجرت فكان لها دوي تاريخي شديد. ومؤسسة الانكشارية لم تشذ عن هذا القانون فنمت وترعرعت ثم أصبحت هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا. وهذا القدر يطال في العادة كل المؤسسات التي لا تتكيف مع قوانين التاريخ كان ذلك في الكتاب مسطورا.. تولد ثم تكبر ثم تضعف وتشيخ ثم تموت وكان أمر ربك قدرا مقدورا.. أقول هذا مستشهدا من مؤسسة قوية للغاية عاشت مع ولادة الدولة العثمانية فحمتها ثم أصبحت خطرا عليها وهكذا شأن العديد من المؤسسات، والحزب الفاشي مثلا يبدأ بأفكار ومثاليات ليتحول إلى درع خانق ليتفجر ويكنسه التاريخ..
ومن هذه المؤسسات العقائدية الشيء الكثير، ولعل أفظعها المؤسسات الدينية، كما حصل مع محكمة التفتيش التي عاشت خمسة قرون وليست الوحيدة في العالم والتاريخ..
حكمة بالغة فما تغني النذر..