قانون العبقرية وسنوات النضج
هي ثماني حجج كما حصل مع خدمة موسى في بني مدين، فإن أتم عشرا، فمن عنده مع مائة ألف وحدة معرفية.
ويسميها علماء النفس (شنك Chunk)، ويقربونها للفهم بمثل من جاء إلى لوحة شطرنج لا يعرف أين وصل لاعبوها، فأما الذي يملك الوحدات المعرفية فيعرف طبيعة المرحلة، أما الجاهل فيظنها أنها بدأت للتو.
ونفس الشيء ينطبق على الجراحة؛ فحين يدخل من عنده وحدات معرفية، يعرف طبيعة المرحلة وصعوبة العملية من سهولتها وزمنها التقريبي للانتهاء. ويصدق هذا على كل الحقول المعرفية ودمجها معا، في رحلة تشكيل العقل الموسوعي.
والبارحة كنت مع كوكبة من شباب الرياض الرائعين، بدأوا في تشكيل وسطهم العقلي بإطلاق شعار ممتاز في الصيف، يحمل نادي القراءة والتأمل فاستبشرت خيرا.
وحدث معي نفس الشيء في البحرين حين عرضت أيضا على الفاضل الموسوي إنشاء ناد فكري لتوزيع اللقاحات في أجواء التعصب المذهبية والطائفية وكلها أمراض. وهي أمور مبشرة بولادة جديدة للعقل المسلم.
وفي قناعتي أنه إن استطعنا الترويج للفكر التنويري فسنكون أطباء معالجين بطريقة منهجية لداء التعصب والتشدد والتطرف والإرهاب.
نحن مع الحل الأمني، ولكنه عفوا يشبه حب الأسبرين لتخفيض الحرارة عند مريض مصاب بالملاريا، وسوف تأتيه النوبة القادمة لا يجليها لوقتها إلا هو.
والأطباء في العادة يعالجون الأمرين معا، تخفيض الحرارة مع الكينين والصادات الحيوية والكمادات الباردة مع الكورتيزون ومركبات الباراسيتامول.
وأحيانا أقول إنني نشرت في جريدة «الرياض» على مدى خمس سنوات 235 مقالة، ربما ربعها في التأسيس العلمي السلمي، وهو عنوان زاويتي في «الاقتصادية»، ولو انتبه القائمون على الأمور لهذا الترياق، لطبعوا مليون مرة مقالاتي، ووزعوها في كل مكان، مثل توزيع الماء البارد في قيظ هائل، ولكن الأمم تتعلم بالمعاناة والهجير، والعلماء يدفعون دفة التقدم بطريقة اقتصادية. وكلامي كتب ليس مداهنة لطرف وإدانة لطرف بل كانت كتابة هادئة في وقت هادئ قبل أن ينفجر العنف والإرهاب سنوات، وهي رؤية اختراقية لسجف المستقبل ولكن من ينتبه.
وحاليا أتمنى أن تقوم مراكز للتفكير المنهجي ليس على طريقة البرمجة اللغوية العصبية ولكن بالتأسيس الموسوعي العقلي للشباب في 25 حقلا معرفيا الأول مهمته رسم بانوراما، والبقية في علوم شتى من علم الذرة إلى الكوسمولوجيا، ومن علم الوراثة إلى الأنثروبولوجيا، ومن البيولوجيا إلى التسلح وأسلحة الدمار الشامل ومعنى السلام العالمي. وفي علم النفس وعلم الاجتماع السياسي، وأفكار التاريخ ووصفات الاقتصاد ووضع المرأة ومستقبل التكنولوجيا، وفلسفة العلوم وجدل التاريخ وإعادة بناء العقل المسلم والنقد الذاتي وأهمية اللاعنف .. إلخ.
وفي هذه الرحلة الشيقة يحتاج المرء حتى ينضج إلى ثماني حجج؛ فإن أتم عشرا فمن عنده، وما أريد أن أشق عليه، ولكن بجهد متتابع بدون انقطاع، فبجمع ما لا يقل عن مائة ألف وحدة معرفية. وبها يصل إلى النضج المعرفي، ويمكن له أن يكتب بعد أن يكون قد قرأ في أقل تقدير حوالي ألف كتاب، أو كما طرحتها أنا في أكاديمية العلم والسلم الإلكترونية لتلامذتي حوالي 300 كتاب في عشر سنين، بمعدل ثلاثين كتابا كل سنة من ذخائر الفكر الإنساني. وهو من هذا العلم على غرر فليحذر من الأمراض الثلاثة: الغرور والكسل والاجترار. الغرور الشعور بأنه امتلك الحقيقة كل الحقيقة فليتعلم بدلا منها التواضع، لأنه لا مكان للمستكبرين في جنة الله فيطرد صاحبها كما طرد الشيطان، فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين.
والكسل هو رأس الذنوب لأن الله خلقنا للعمل فنعم أجر العاملين.
والاجترار هو الدورة الداخلية للتآكل والاحتكاك دون إنتاج جديد.
ولا بورك لنا في طلوع شمس ذلك اليوم الذي لا نزداد فيه علما يقربنا إلى الله تعالى.