قانون سبينوزا: القراءة حتى لذة الفهم!!
تكون القراءة أولا مثل عمال المقالع شقاء ونصبا وعذابا وعرقا، مثل تعبيد الطرق حصى ورمالا وجبالا ووديانا وصعودا وتعبا، ثم تلين الكلمة تدريجيا والنضج عمقا وشمولا، ثم يصل الإنسان مرحلة الفلسفة لذة الفهم، وتحصل بعد جهد عشرات السنوات، فإذا وصلها من كدح لا يرحمه الموت لأن عينيه أبصرت الحقائق فأصبح حديدا؛ فيجب أن تودع عالم الغموض والضبابية، والذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، إلى دنيا التألق والنور والوعي ولا يخافون ولا يحزنون ولا يقلقون ولا يهتمون ولا يفقرون ولا يموتون إلا الموتة الأولى..
يجب أن تقرأ كما يقول سبينوزا حتى تصل إلى لذة الفهم، وهي عند الصوفية تلك الحالة الروحية من المتعة التي يشعر بها عباده المؤمنون من إبصار الحقيقة والاقتراب من نور الهداية؛ فينشرح الصدر فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.
وهناك عدة مبادئ لخبراء الكتب في الصيد والاكتشاف، هواية وحرفة،للاستدلال على أماكن توليد الإنتاج المعرفي والوصول إليه، وهنا قد ينفعنا قانون ابن خلدون في القراءة الثلاثية وقانون ابن سينا في تشبع الدماغ وحل المعضلات في النوم... أليس عجيبا؟
وأذكر من جلستي يوما عند أبو عبد الرحمن أن ذكرت له الكاهن مسلييه وعهده الجديد، وكيف كتب أمورا في حياته، مخالفا الكنيسة تماما ومعتقدات المسيحيين العامة، فقال لي صديقي هل يمكن أن تريني المكان في أي كتاب هو؟ فقمت وأحضرت له كتاب قصة الحضارة في مجلسه من نفس مكتبته، وأطلعته على النص الذي يذكر قصة هذا الكاهن الجريء الصادق الذي كتم إيمانه، ولقد كتبت عنه مقالة لم ننشر فيها كل أفكار الرجل، ونفس قصة فولتير معه، فقد تردد في نشر كامل وثيقة الكاهن لشدة كثافتها وعدم تحمل الوسط لها.
وأذكر من جلسة صباحية وأنا في مجلس الأطباء أنني قرأت بحثا ممتازا عن الاستنساخ الجسدي فاستوعبته وتمكنت منه، وأعرف تماما أنني حين أتشبع بالبحث إلى درجة الكفاية فاض البحث مني في صور شتى، بما فيها الصور الأدبية!
ومنها قصتي مع الدكتور برمدا الذي كان يدرس لنا مادة النسائية في كلية الطب، فسمعت منه بحثا استهواني جدا عن الجنين والتروية الدموية عنده؛ فنقشت في دماغي نقشا، ولم أكرر قراءتها بعد ذلك، ولما جاء السؤال في الامتحان كنت أعتمد كلية على ذاكرتي التي مر عليها الشهور ذوات العدد، وأبدعت فيها، وكنت أكتب وكان لوحة مفتوحة أمامي، أنقل منها ما أشاء من معلومات. وهي نفس قصتي مع مؤتمر بريوني في الكفاءة مع الديكتاتورين ناصر وتيتو.
ولا أنسى تلك الحالة من الاتقاد العقلي بعد فحص البكالوريا؛ فقد بلغ مني الجهد مبلغه؛ فبقيت نائما على ظهري صيفا لمدة شهر، نقاهة من فرط التعب والمذاكرة، ولكن عقلي كان مثل قصة كابتن فيوتشر، فقرأت كتاب المواريث لرواس قلعجي في يوم واحد، وهو علم صعب فانحفر في الذاكرة، وما زلت أتذكر منه القصة الحمارية ودينار من ورثة 600 دينار وقصة الإمام علي من المواريث مع من سأله عن حصة المرأة وكيف يتغير بالعول!.
أما كتاب عندما تغير العالم فقد التقطت منه بلذة وفهم الموضعية المنطقية لأرنست ماخ، وقصة اكتشاف قانون بندول الساعة مع جاليلو في مجلس الكاهن ميرسين.
وما زلت أذكر مؤتمر برلين عام 1975وأنا منهمك في اكتشاف قوانين ديكارت في التحليل الهندسي، وكيف أن كتابة المقال على المنهج تركني مسحورا حتى الآن. أما كتابي آخر الراحلين لمحيي الدين سليق، عن مأساة إبادة شعب قفقاسي، ومسألة الآخر عن إبادة شعوب الأمريكيتين لتزفيتان تودوروف فقد بقيت في حالة الصدمة أياما طويلة.
وأعظم منه تلك الساعة من الغطس المعرفي مع روح سبينوزا، في كتابه رسالة في تحسين العقل التي بدأتها باللغة الألمانية، وهو يطرح الأسئلة الثلاثة أي السعادة الشاملة التي لا تغور ولا تتوقف ولا تنقطع عند حافة؟ اللذة فاجرة، والشهوة مدمرة، والمال مفسد، والشهرة تقود إلى الدمار، ولو بعد حين؟ إذا أين السعادة التي تمتد فلا تنقطع وتشمل فلا تترك إلا الظلال؟ إنها ساعات من أجمل ساعات العمر وأكثرها بركة.
كذلك أذكر ذلك الانسياح والسباحة في كتاب عبد الستار إبراهيم مع مدارس علم النفس، أو ذلك الخوف والترقب مع كتاب الإنسان يبحث عن المعنى لفيكتور فرانكل، أو ذلك التألق في فهم وظيفة المسجد عند النيهوم، ووظيفة خطبة الجمعة المتوقفة حاليا ـ حسب رأيه ـ ، أو تحليل الوردي عن الصراع الاجتماعي ولماذا يرفض المجتمع التغيير، أو كانط ولما يجب رسم خطة للسلام الأبدي؟
هذه العتبة من لذة الفهم تقرب معنى الجنة وأنسها، ووحشة الحياة الدنيا واضطرابها، وأنها ليست مكانا آمنا بحال. فنحن نمرض ونضعف أو نشيخ ونهزل أو نسرق ونعتقل .. حتى نرجع الى الله فينبئنا بما كنا نعمل.. «قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وكانوا بآياته يجحدون».