الجانب الأخلاقي في الشر

هذا العنوان يوحي بالتناقض فكيف يمكن للشر أن يولد الخير؟ ولكن علم النفس ينير الموضوع بإنارة مختلفة، مثل تسليط الضوء المختلف على زاوية مختلفة، ومثلا فعالم النفس (هدفيلد) يهذب إلى أن الشر هو اندفاعة خير جاء في الوقت الغلط إلى المكان الغلط لدافع غلط.
أو حسب تحدي أرسطو عن الغضب أنه سيئ إذا جاء للدافع الغلط في الحجم الغلط في المكان الغلط في الوقت غير الملائم في وجه الإنسان غير المناسب.
وفي القرآن حديث عن قصة الإفك أنه «لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير»، ذلك أن الأوقات الصعبة تكشف المعادن الجيدة من الخسيسة من الناس، وفي الحديث أن الناس معادن مثل معادن الذهب والفضة.
والقوانين عموما تصدر مع الأحداث المرة والصعبة، ونحن حينما تعرضنا للسرقة وللمرة الأولى قلنا إن الحياة في الكامب الطبي داخل المستشفى غير الحياة في بيوت منفصلة ليس عندها دركي ليلي وحارس نهاري، كما كانت أيامنا قبل نصف قرن!
وهذا القانون ينطبق على أعظم جريمة تمت في تاريخ الإنسان، حينما أحرق أهل هيروشيما في ساعة من نهار بحرارة تذكر بجهنم التي تتلظى نزاعة للشوى. تكاد تميز من الغيظ وهي تفور، على شكل فطر نووي يصعد خمسة كيلومترات في كبد السماء والحقيقة التاريخية.
أصبحت كلمة هيروشيما من مفردات القاموس الإنساني، ولو بعث أحد القدماء من مرقده وسئل: هل سمعت بالكلمة؟ لهز رأسه نفياً وتعجباً؟ ولو بعث إنسان مستقدم من المستقبل بعد عشرة آلاف سنة لهز رأسه وقال: وهل تغيب هذه الكلمة عن ضمير حي!
سيبقى يوم 6 أغسطس 1945 مفترق طريق تاريخي حاسم. وثمة خمسة مؤشرات كما نرى: فكونها مفترق طريق بين الشر والخير، فقد مضى الجنس البشري يكيد بعضه بعضاً، ويستعبد بعضه بعضاً، فكانت هيروشيما إعلاناً لحقيقة أن القوة وصلت إلى الوضع الذي فشلت فيه. أما أنه فراق القوة والعلم، فقد اتضح ذلك منذ اللحظات الأولى لحريق هيروشيما، حيث جاءت القوة من العلم لكن العلم حكم على القوة بالإعدام، فمن طور الفكرة النظرية في علاقة الطاقة بالمادة كان العالم آينشتاين، ومن ركب السلاح النووي تركيباً وبطريقتين مختلفتين، اليورانيوم 235 والبلوتونيوم 239 كان روبرت أوبنهايمر.
أما أنها كانت فراقاً بين العقل والعضل، فقد أدرك البشر مع تصاعد الفطر النووي خمسة كيلومترات، أن هذه الطاقة الجديدة ولادة لعمل العقل البشري الجمعي، وأن عضلات الإنسان نكسة حيوانية. وهيروشيما أعلنت أن أسمى ما في الإنسان هو روحه وعقله المتألق.
أما أنها فاصل بين الكفر والفكر، فلأنها تعميق فلسفي لمعنى الكفر والإيمان، من زاوية الإيمان بالله والإنسان المصطفى لخلافة ربه في الأرض، فهنا لم ترَ الملائكة صورة أوضح للكفر من سفك الدماء، ولذا كانت تجربة القنبلة النووية إيذاناً بأن عهد سفك الدماء في طريقه إلى الانكماش، والمراهنة في إيقاف الحروب لن يأتي من مجلس الأمن الدولي، فهو مجلس ولد لخدمة الأقوياء، والرهان هو على الاتحاد الأوروبي الذي قام بالعدل، ولعله يلتهم حوض البحر المتوسط كله، خلال القرن القادم، فندخل الديمقراطية ونخرج من ظلمات الديكتاتورية التي أناخت بكلكلها وهلك هنالك المبطلون.
أما أنها كانت بشيراً للسلم نذيراً للمجرمين الذين يستعبدون رقاب الناس بالسلاح والنار، فهو أدعى للعجب، وإلا كيف نفهم أن بني إسرائيل يعبدون العجل النووي بعد السامري، وعقلية هرمز وداريوس تنبت من رحم الجمهورية الإسلامية فيضاهون عمل بني إسرائيل في صناعة الصنم النووي؟
يذكر فؤاد زكريا في كتابه «خطاب إلى العقل العربي»، أمرين على غاية من الطرافة، أن السلاح النووي سلاح ليس للاستعمال مع تكلفته الباهظة، والحرص على صناعة سلاح لن يستخدم، وحتى الرؤوس النووية لا بد من إعطائها جرعة بوستر مثل لقاحات الأمراض من مادة التريتوم والدويتيروم، من مشتقات الهيدروجين!
لماذا إذن تبني إيران هذه الكائنات المشوهة، بينما تمضي ديناصورات القوة إلى اتفاقيات ستارت واحد واثنين للتخلص من السلاح النووي؟ كيف نفهم تناقض العالم؟
الجواب أن السلاح النووي صنم، والقوة باطل و»قبض الريح»، ومؤسسة الحرب ماتت، وشمس النبوة سطعت، والكعبة ستمتد وتتمدد لتحول الكرة الأرضية كلها إلى كعبة كبرى، والأشهر الحرم ستطول، والتاريخ سيسير قدماً، والزبد يذهب جفاء.
علينا ألا نستعجل، فالحضارة لم تبدأ إلا منذ ستة آلاف سنة، مقابل جولان الإنسان في الأرض منذ ستة ملايين سنة يطارد الوحوش وتطارده. «ويستنبئونك أحق هو؟ قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين».

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي