لغتنا هي العربية وليس غيرها (2 - 2)
فندنا في مقال الأسبوع الماضي كل الحجج والادعاءات التي يبني عليها البعض دعواه بضرورة التوسع باستخدام اللغة الإنجليزية على حساب لغتنا العربية بصفتها لغة المال والأعمال العالمية، وأشرت لملاحظة مهمة وأساسية وهي أننا لسنا ضد تعلم الإنجليزية لنتخاطب بها مع العالم، ولكننا قطعا ضد أن نستبدلها بدلا من لغتنا الأم اللغة العربية في مجتمعنا وداخل حدودنا، فالإنجليزية هي لغة عالمية بينية، أي تستخدم بين مجتمعات ودول لغاتها مختلفة كون الإنجليزية هي اللغة الأكثر انتشارا في العالم لسهولة تعلمها كونها لغة بسيطة، وأنها كانت لغة الاستعمار البريطاني الذي بسط سلطته على بلدان عديدة مما أسهم بانتشارها وتعلمها من قبل تلك الشعوب، وباتت في عصرنا الحالي لغة الولايات المتحدة بكل تأثيرها السياسي والثقافي والاقتصادي، ولهذا أصبحت لغة عالمية بهذا المقياس، ولكن حين يأتي من يطالب بأن تعلم لكي تستخدم بدلا من لغته الأصلية، يصبح أمر استخدامها هنا ليس لغرض بيني أي للتواصل مع العالم الخارجي، بل مشاركة في هدم وتهميش لغتنا العربية لغة القرآن الكريم.
هذه القضية أثارت أخيرا العديد من أصحاب الرأي الذين أطلقوا التحذير تلو التحذير من خطورة هذه الاندفاعة غير المحسوبة للتوسع في استخدام الإنجليزية على حساب حضور لغتنا العربية وما قد يؤدي إليه من معاناتنا من ثنائية لغوية سوف تكون لها آثارها السلبية بلا شك، وطالبوا وعن حق بحماية لغتنا العربية من هذا الانجرار خلف دعاة الإنجليزية واستخدامها لتكون هي لغة العلم والمال والأعمال الوحيدة، وهي مطالب صحيحة ومهمة لحماية لغتنا القرآنية من أن تنزوي من حياتنا واستخداماتنا العصرية وتبقى مجرد لغة محكية ولا تسمع إلا في المساجد فقط.
ما يقلق كثيرين ممن يتوجسون من هذه الاندفاعة غير المحسوبة أو المشبوهة للإعلاء من شأن وقيمة اللغة الإنجليزية والتوسع في استخدامها، هو أنها باتت وبكل أسف اللغة الرسمية الوحيدة لكثير من شركاتنا ومؤسساتنا الحكومية والخاصة، فلا يصدر منها ما هو مكتوب إلا بالغة الإنجليزية، ولا تسمع بين جنباتها حديثا بين موظفيها إلا بها، ولا يلتفتون لأي طالب عمل مهما كان مؤهله ما لم يتقنها نطقا وكتابة وقراءة، مع أن معظم مجال عملها داخلي.
وما هو أخطر من ذلك هو التعليم الذي بات جله اليوم يتمحور حول اللغة الإنجليزية، وجاء انتشار المدارس والكليات والجامعات الأجنبية التي تستخدم فقط الإنجليزية أشبه ما يكون بدس السم في العسل، والسم المدسوس هنا هو في عزل أجيال جديدة عن لغة القرآن وتعويد لسانها وتفكيرها وتصوراتها على اللغة الإنجليزية، فيخرج لنا جيل بليغ وبارع به، متلعثم ومكسر في الحديث بالعربية، ولن يستغرب يوما أن أحدهم يتحدث بطلاقة باللغة الإنجليزية وهو عربي مسلم، وعندما يستخدم العربية يتلعثم ويبطئ بكلامه، والسبب هو أنه يضطر لترجمة المعاني من الإنجليزية لكي ينطقها بالعربية ..!!، وهذا هو مكمن خطورة الإغراق في جعل التعلم باللغة الإنجليزية، فهو يعزل ما بين تفكير الشخص ولغته الأصلية، وعندها نخرج أجيالا ربما تقرأ القرآن مثلا ولكنها لا تفهم معانيه، وقد يضطر هذا الجيل، كما قال أحدهم، لقراءة القرآن مترجما للإنجليزية حتى يفهمه، وهو ما يفرض علينا إن أردنا حماية لغتنا العربية من أن تضعف بل تندثر كلغة علم وحياة وحضارة وثقافة، وهي تملك كل المقومات اللغوية، أن نجعلها لغة التعليم الأساسية وخاصة في المرحلة الجامعية، وأن يكون تعليم الإنجليزية كلغة, لا أن تصبح لغة مناهجنا الدراسية.
إن هذه الاندفاعة غير محسوبة العواقب على لغتنا العربية بشيوع انتشار استخدام الإنجليزية كلغة عمل ومال وتعليم، هي رأس الحربة بإنجاز ما سبق أن فشل فيه في إضعاف وهدم لغتنا العربية لغة القرآن، فما عجز عنه الاستعمار الغربي وأعداء الأمة بتجريدها من لغتها كونها تكون هوية دينية وقومية، هانحن نحققه لهم اليوم بإحلالنا للغة الإنجليزية بدل العربية، كما نراه ونلمسه بكل أسف، حتى وصل الأمر بنا وبهدمنا للغتنا العربية والرفع من شأن الإنجليزية أن مسميات معظم أسواقنا ومحالنا التجارية باتت بلغة أجنبية، وكأن العربية قاصرة أو لغة متخلفة لم تعد تصلح ليتسمى بها سوق ضخم أو حتى مجرد مقهى صغير ..!!
المسؤولية في ذلك كله تقع على مؤسساتنا السياسية والثقافية والتعليمية ثم التجارية، فهذا الصمت وعدم المبالاة لما تتعرض له لغتنا العربية من غزو لغوي إنجليزي كاسح، يتطلب منها جميعا وقفة جادة وحازمة لوقف مد استخدام الإنجليزية كلغة بديلة للعربية داخل مجتمعاتنا العربية، وأن نفرق ما بين حاجتنا إليها كلغة بينية نتواصل بها مع العالم الخارجي، وأن نجعلها لغتنا الأساسية والأولى كما هي عليه حال جل مؤسساتنا وشركاتنا اليوم حين تفرض استخدام الإنجليزية حتى في إلقاء السلام، وأذكر بأن قرارات القمة العربية الأخيرة تضمنت دعوة للاعتناء باللغة العربية في بلادنا العربية، وهو ما يفرض على الجامعة العربية أن تتبنى توصية القمة العربية وتعمل بجد على حماية لغتنا العربية من هذا التغريب الذي يكاد أن يقضي على استخدامها في شتى مناحي حياتنا وخاصة تعليمنا الجامعي بالعمل على تعريبه، فأمة بلا لغة خاصة بها سوف تظل تابعة لغيرها وغير قادرة على الاعتماد على نفسها، وهذا ما أدركه اليهود حين قاموا بإحياء اللغة العبرية التي كانت مندثرة، ولم يعتمدوا على لغة أخرى بما فيها الإنجليزية.