طوفان الغش التجاري.. متى يكون الجزاء من جنس العمل؟
مفزع ومخيف هذا الذي يحث لدينا هنا، الغش التجاري استشرى واستفحل وتمدد في مجتمعنا بشكل غير مسبوق، الأكل يُغش والدواء يُغش والصابون يٌغش والمساحيق تُغش، وأدوات السيارات تٌغش ومواد البناء تُغش ومعظم المواد الموجودة في السوق مغشوشة مغشوشة، والأمراض انتشرت والناس تعاني هذه الآفة الخطيرة، بل إن الأدهى والأمرّ أن أصبح بعض الموردين لهذه المواد المغشوشة هم من حاربها من قبل، بعد أن فقدوا الأمل في بضاعتهم الأصلية ووجدوا أن المستقبل الحقيقي والعائد الأكبر والسريع في أسواقنا يأتي إليهم من خلال البضاعة والمواد المغشوشة.
إن التعويل على ضمائر الناس أمر لا يجدي مع هؤلاء الغشاشين والمطففين أصحاب النفوس الضعيفة. هذه المشكلة هي نتيجة لتراكمات وثقافات انتهازية مبنية على الغش والجشع والخداع ترعرعت عليها عدة أجيال. ما الحل إذن بعد أن وصل حجم السوق السعودية من البضائع المغشوشة إلى مليارات الدولارات طبقاً للعديد من الإحصاءات؟ وهذا مؤشر خطير بل كارثة لا تقل عن أي كارثة من الكوارث الأخرى التي تصيب المجتمع، بل إنه ولا مبالغة أنها لا تقل أهمية عن مشكلة المخدرات إن لم تكن تفوقها، فكلاهما ضار بصحة المجتمع، بل إن الغش يطول شريحة أكبر من المجتمع، نظراً لأنه يتعلق بأكل وشرب وعلاج الناس وجميع فئات المجتمع كباراً وصغاراً رجالاً ونساءً، ولا بد من العمل بقوة على تفكيك هذه الخلايا التي تقوم بإدخال هذه البضائع المغشوشة لمجتمعنا، فهؤلاء لم يكن لديهم أمل في إدخالها لولا أن هناك فئة من ضعاف النفوس تساعدهم على تمرير جريمتهم هذه.
لم تستطع الجهات القائمة مواجهة هذا الانتشار الكبير لقطاع الغش، فالمسؤولون عن متابعة هذه المعضلة غير قادرين للتصدي لها، أو على الأقل الحد منها في ظل قطاع يتنامى بشكل مستمر وخطير.
نظام مكافحة الغش التجاري عاجز لوحده وبوضعه الحالي عن مواجهة هذا الطوفان العارم، فالسوق تغرق بالبضائع المغشوشة وانفتاح الأسواق العالمية على بعضها بعضا يزيد من حجم المشكلة، حيث تؤدي مستجدات ومتغيرات السوق كل يوم إلى انهمار وتدفق موارد وبضاعة مزيفة لا حصر ولا عدد لها من كل فجاج الأرض، والنظام على حاله ثابت منذ سنين ولا حول له ولا قوة تجعله قادراً على تطويق هذا الخطر الجسيم وعلى تلك الخلايا التي أدمنت هذا الفعل الشنيع، فالبون شاسع بين المتغير والثابت، فمرونة النظام ومواكبته لتقلبات السوق المتجددة مطلوبة إزاء هذه المعضلة الكبيرة، فمن أدخل طعاماً أو شراباً أو دواءً مغشوشاً أو مسرطناً هو تماماً كمن قتل نفساً بشرية دون وجه حق.
الفصل الرابع من نظام مكافحة الغش التجاري تضمن بيان العقوبات الواجب الحكم بها على من يخالف أحكام هذا النظام، ولكن يتضح بجلاء أن هذه العقوبات غير كافية وغير فعالة للحد من هذه المشكلة، لأن الغش أصبح قطاعاً متمدداً ومتنامياً شأنه شأن أي قطاعات أخرى، ولا مناص من تشديد هذه العقوبات بالنظر إلى الأثر الكبير والخطير المترتب على هذه المخالفات، إذ نُص كجزاء على مخالفة أحكام هذا النظام بالغرامة المالية أو بالسجن في معظم الأفعال، وكان الأجدى أن يكون السجن هو العقوبة الحتمية لأن الغرامة المالية وحدها ومهما كان حجمها لن تردع أمثال هؤلاء الغشاشين، أي أن العقوبات يجب أن تكون بالسجن والغرامة معاً في حال ثبت أن الغش كان متعمداً مقصوداً، إلى جانب التشهير بأسماء هؤلاء الأشخاص ومنعهم من ممارسة العمل التجاري لعدة سنوات، كما يجب رفع سقف العقوبة المذكورة في النظام ليتفق مع حجم المشكلة المتزايدة، فمن يروج بضاعة ومواد تؤدي للفتك بالناس يجب أن يلقى جزاءه من جنس ما اقترفت يداه حتى يكون الحكم رادعاً لكل من يقدم على مثل هذا العمل الشنيع.
بقيت الإشارة إلى أهمية تكوين هيئة أو جهة مستقلة وبميزانيتها الخاصة وبعيدة عن البيروقراطية ومناط بها إحكام التنسيق بين مجهودات جميع الأجهزة والجهات المعنية بهذا الموضوع للعمل كجهة واحدة عوضاً عن تشتت وتعدد أعمال هذه الجهات، وما قد يترتب عليه من تضارب في اختصاصات وقرارات هذه الجهات، حيث يضمن لها الديناميكية والسرعة المطلوبة في الأداء لمواجهة هذا الشر المستطير. كما أنه من الأهمية بمكان تعزيز قدرات المراقبين والمفتشين وزيادة أعدادهم وتدريبهم جيداً ووضع حوافز كبيرة لهم ومنحهم جميع الصلاحيات لتمكينهم من أداء واجباتهم حتى يكون في مقدورهم مواجهة هذا الطوفان العارم وأضراره الخطيرة والمؤلمة على المجتمع.