التجارة عند العرب والمسلمين.. ملاحظات أولية
يورد القرآن الكريم، وهو أصدق الكتب، لفظ «التجارة» تسع مرات بشكل صريح ومباشر، وبالطبع هناك كثير من الألفاظ والمصطلحات التي تومئ إلى التجارة، تم تناولها بشكل متقصٍّ في فقه المعاملات وأدب الحسبة، وكانت التجارة تمثِّل المورد الرئيس للناس في مكة المكرمة قبل الإسلام، ومثل ذلك يمكن القول حول دور المدن والتجمعات السكانية في أعالي الجزيرة وفي اليمن، وكانت الوديان في الوسط الصحراوي تمثِّل شبكة الاتصالات، ومن هنا عرفت الجزيرة الأسواق، بعضها كان على مستوى كبير وشامل، مثل سوق عكاظ والمربد، وبعضها كان على مستوى المحيط، ويمكن القول إن العرب أولعوا بالتجارة، وكانت تُشكِّل لهم هوساً خاصاً بهم، وأصدق ما نشير إليه هنا قوله تعالى: « رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ» (النور، آية 37)، وقوله تعالى: «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (الجمعة، آية 11).
من هنا، وعند العودة إلى كتب السيرة والسِّيَر لأهالي مكة المكرمة ولأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم نجد أنهم عملوا في التجارة، ومعروف لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة النبوية الشريفة كان قد سافر مرتين بتجارة للسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. ونجد أن التجارة المكيّة كانت، كما أشار القرآن الكريم، موسمية: شتاءً إلى اليمن، ومنها إلى الحبشة عن طريق جزر الفرسان قبالة سواحل اليمن، وصيفاً إلى بلاد الشام الجنوبية؛ إذ تذكر المصادر بُصرى في جنوبي حوران، وغزة حيث توفي هاشم، الجدّ الأعلى للرسول فعُرفت باسمه، وإلى القدس، حيث وصل عمرو بن العاص. وبشكل مختصر، وصل التجّار إلى معظم مدن وقرى فلسطين والأردن وحوران، كما وصلوا إلى جنوبي العراق ومنطقة الأهواز وإلى مصر، وعرفوا التجارة في البحر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك جيداً أهمية التجارة بالنسبة للاقتصاد المكّي، من هنا كان تعرّضه لقافلة قريش العائدة من بلاد الشام، والتي بسببها كانت معركة بدر عام 2هـ/624م.
والمعروف أن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض التسعير عندما اشتدّت الأزمة وقلّت الأقوات في المدينة المنورة عام 8هـ/629م، ومن هنا فإن السوق الإسلامي تمتّع بحرية واسعة شريطة عدم الاحتكار والغُبن. وأوجب الإسلام، وبالتالي الدولة الإسلامية، عن طريق رقابة المحتسب، الالتزام بالمكاييل والأوزان ووحدات القياس من الذراع والفرسخ المعتمدة في كل مدينة، لأن البلاد الإسلامية لم تكن موحّدة في كيلها وميزانها، بل كانت متباينة من بلد إلى آخر، سواء على مستوى الصواع أو المدّ أو الأوزان، بل حتى على مستوى العملة، فإن أوزان الدينار والدرهم والآقجة العثمانية وفيما بعد القرش كانت أيضاً متباينة من ولاية إلى أخرى، ونجد ذلك واضحاً من خلال عمليات البيوع التي توردها سجلات المحاكم الشرعية. وأن فكرة التوحيد لكل المكاييل والأوزان قد بدأت مع فكرة التنظيمات والإصلاحات التي فرضتها الظروف والضغوط الأوروبية على الدولة العثمانية، وبقيت المحاولات متعثِّرة حتى بعد وقوع البلاد العربية بكاملها تقريباً تحت الاستعمار.
وما كان التوحيد الذي نراه اليوم مستكملاً لخطواته وإجراءاته إلا بعد توحيد هذه الأمور للأوزان والمكاييل والمقاسات إلا بعد قيام الاتحاد الأوروبي، وتحوّلنا إلى النظام المئوي الذي جاءت به الثورة الفرنسية. فمن هنا نرى أننا بحكم موقعنا المتوسط في العالم لا نستطيع أن نعزل أنفسنا عن جيراننا، كما أن التجارة الدولية استوجبت اليوم التوحيد معها والإقلاع عن كثير من وحدات معاملاتنا التي أصبحنا نجمعها من باب التوثيق وبناء المتاحف الشعبية والوطنية.
لقد قدّر المسؤول المسلم في المراحل الأولى لتأسيس الدولة أهمية التبادل التجاري مع الآخرين، فهذا عمر بن الخطاب يسمح لأهالي منبج، من دار الحرب، بدخول دار الإسلام للاتّجار شريطة أن يعشرهم، وكان المسلمون لا يقتلون تجّار المشركين أثناء الفتح. ونلحظ في هذه المرحلة المبكرة دور السكان المحليين من غير العرب، كالنبط، في التجارة بالأطعمة، وأن أهالي المدينة المنورة كان يسلِّفونهم الأموال. وعندما استقرت الدولة، برع الموالي وأهل الذمة من المسيحيين واليهود في التجارة في مختلف المدن الإسلامية، وفي التجارة الداخلية بين أقاليم العالم الإسلامي، ومثل ذلك في التجارة الخارجية. ومن هنا عرفت الحضارة العربية الإسلامية تجارة البحر، وبفضل تجّارها وأهلها عرف أهالي جزر الأرخبيل في كل من إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والهند الدين الجديد، فاعتنقه قسم كبير من السكان.
ونجد في أدب الرحلات عند ابن جبير وابن بطوطة وغيرهما الوصف الوافي عن تفتيش أهالي الجمارك للمسافرين وللتجار، لجمع المكوس لصالح بيت المال، وتطورت مؤسسات السوق فعرفت دار الوكالة في مصر والخان في بلاد الشام وبدستان والقيسارية في بلاد الأناضول، وما إلى ذلك من مؤسسات السوق، وفيها كان يتجمع التجار وتتم عملية تبادل السلع، وما زلنا نجد خانات الإفرنج قائمة في حلب وصيدا وغيرها من المدن المشهورة بمكانتها التجارية. وتعزّزت هذه المؤسسات بعد قيام شركات في الغرب، مثل شركة الهند الشرقية، لتنظيم التجارة مع بلدان العالم الإسلامي، وأصبحت السلع الأولية تُصدَّر إلى أوروبا ومنها تستقبل الأسواق الإسلامية المصنوعات الأوروبية، وبخاصة بعد قيام الثورة الصناعية التي أصبحت منتجاتها كفيلة بالقضاء التدريجي على الصناعات اليدوية التقليدية في العالم الإسلامي، ونحن اليوم نجدُّ في سبيل إحياء هذه الصناعات لنبيعها للسيّاح الأجانب الذين كانوا واحداً من العناصر التي اخترقت جُدر الاتحاد السوفياتي الحديدية وساهمت في إسقاطه.
إن قراءة سِيَر كبار العلماء في التاريخ الإسلامي، مثل محمد بن سيرين (ت 110هـ/729م)، وأبي حنيفة النعمان (ت 150هـ/767م) وغيرهما، كانوا يتعاطون التجارة كليّاً أو جزئياً. من هنا فكّرتُ في يوم من الأيام أن أُرسل طلبة مادة فقه المعاملات في إحدى الجامعات التي أسّستُها إلى المناطق الحرة وإلى الأسواق في حصص تدريبية ليعرفوا السوق عن كثب، حيث نجد أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم «إن التجار هم الفُجار»، «إنهم يقولون ويكذبون ويحلفون ويأثمون»، «فشوبوه بالصدقة». ونجد أن الكثير من المسؤولين في تاريخنا قد عملوا بالتجارة، فهذا زياد بن أبيه يُعطي رجلاً من أهل الشام ستين ألف درهم ليتاجر له بها، لذا نجد الخليفة عمر بن عبدالعزيز (99هـ/717م – 101هـ/720م) ينهى عن ممارسة الأئمة والعمال للتجارة. ولكن نَهْي حفيد عمر بن الخطاب لم يكن نافذاً في مراحل لاحقة من التاريخ، عندما توسّعت أرجاء الدولة وتدفّقت السلع على أسواقها ونشأت الأسواق بدايةً حول المسجد الجامع، ثم أخذت بالتحلُّق حول القلعة، مقر الحامية والعساكر الذين كانوا من الفئة القليلة التي تقبض جزءاً من مخصصاتها بالنقد، وكان بمقدورهم، ليس أن يشتروا فقط، بل يُقرضون المحتاجين على أمد ويشترون العقارات، بما في ذلك فتح المقاهي وبقية الخدمات ليتغلغلوا في السوق ويصبحوا من كبار أهل الاحتكار، وخاصة للأقوات وللحبوب والمواشي، وأصبح كبار المسؤولين والعسكر يزاحمون التجار في السوق حتى في الأرياف.
كان من عادة مؤرخي السِّيَر والأعيان أن يذكروا أهالي السلطة والقضاة والعلماء وأهالي الفتوى، حتى والزُّعر، لكنهم لم يجدوا من اللائق ذكر أسماء التجار إلا في قصص السمر وقصص ألف ليلة وليلة، حيث يجيء ذكرهم مُموَّهاً وليس صريحاً، وعندما يذكرهم بعض أصحاب التراجم فهو يأتي على أخبارهم على استحياء. ولكن مع مرور الأيام وقيام الغرف التجارية والاتحادات على مستوى الإقليم، ونظراً لأهمية الثروة، فإنهم بالمال السياسي أصبحوا قادرين على مزاحمة أصحاب السلطة على نفوذهم، بل يحلّون محلّهم في أكثر من بلد وقطر، ونحن في جميع هذه المراجعة نبحث عن التاجر الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيّين والصِّدّيقين والشهداء» .