أبا متعب.. إنه لفجر جديد
في هذا اليوم المجيد من تاريخ المملكة العربية السعودية الذي يصادف يومها الوطني ، يتابع العالم بإعجاب مولد فجر جديد في مملكة الإنسانية عندما يرعى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود الافتتاح الرسمي لجامعة العلوم والتقنية التي تحمل اسمه في «ثول» على ساحل البحر الأحمر. ويشارك في حفل افتتاح ذلك الصرح العلمي، على نحو غير مسبوق في التاريخ المعاصر، العديد من زعماء العالم ورؤساء الجامعات،كوكبة من الحائزين على جوائز نوبل، ومئات من المفكرين والقيادات العلمية إلى جانب كبار رجال المال والأعمال على النطاق الدولي. تلك المشاركة الواسعة والرفيعة المستوى تعكس حتماً الأبعاد النبيلة لمشروع الجامعة وعالمية رسالتها من حيث موضوعات أبحاثها وتنوع جنسيات منسوبيها من علماء، طلبة، وباحثين في البرامج المشتركة مع كثير من الجامعات المرموقة في الشرق والغرب، إذ يقدر عدد تلك الجنسيات في هذه المرحلة بأكثر من سبعين جنسية.
وإذ ننظر اليوم والعالم معنا إلى المستقبل الواعد الذي يلوح في الأفق لتلك الجامعة والدور المرتقب لها في مسيرة الحضارة الإنسانية، لا يفوتنا أن نستحضر البعد التاريخي للبطاح التي تحتضنها وما جرى على مسرحها من أحداث قبل 1400 عام. فإن مما يطالعه المرء في تاريخ الأمم أن الله تعالى اختص بقاعاً من الأرض وقّدر لها أن تكون مسرحاً لأحداث شكّلت جزءاً من إرث وتاريخ مجتمعات تخطتها في المكان والزمان. وأحسب أن من بين تلك البقاع الموقع الذي اختاره، بتوفيق من الله، خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للجامعة بالقرب من طريق هجرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حيث أمضى ما بقي من عمره في تبليغ رسالة ربه إلى الناس كافة وتعليمهم ما يحييهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور. ومن حسن الطالع أن يكون موقع الجامعة قريبا من موقع «خيمة أم معبد». تلك الخيمة التي نزل بها النبي عليه الصلاة والسلام في هجرته المباركة، وقد اُشتهرت في كتب السيرة باسم صاحبتها « أم معبد» الخزاعية التي هبطت البركة عليها وعلى أهلها عندما دعا عليه الصلاة والسلام بشاة لها ضعيفة منهكة، فمسح ضرعها وذكر اسم الله، وقال: اللهم بارك لها في شاتها. فدر ضرع الشاة، وشرب كل من كان هناك حتى رووا.
اليوم وبالقرب من مكان تلك الخيمة، يشهد العالم إرهاصات بركة أخرى من الله سبحانه وتعالى ستدر منافع عظيمة للبشرية في ميادين العلوم والمعرفة مايسهم في دفع عجلة الحضارة في كوكبنا نحو المزيد من النماء والرخاء، إذ تم تجهيز جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية بأحدث المختبرات والمعدات التي قل أن تتواجد في مركز واحد بما في تلك المراكز ذات التاريخ الطويل في البحث العلمي. كما وضعت الجامعة معايير وآليات منافسة دوليا ترتكز على قاعدة الكفاية والمقدرة في اختيار العلماء الباحثين والطلاب مهما كانت أعراقهم أو مشاربهم كي تتبوأ مركزا متقدما للبحث العلمي والابتكار بين المراكز الأخرى الرائدة في شتى أنحاء المعمورة.ومما يدعو للاستبشار بمستقبل الجامعة أن جاء إنشاؤها متناغما في التوقيت والمضمون مع مبادرات أخرى عملاقة لخادم الحرمين الشريفين كبرنامج الابتعاث للخارج والتوسع الكبير في تأسيس جامعات وكليات في مناطق متعددة من الوطن . إذ ستضطلع جامعة الملك عبد الله بدور الحاضنة للمبدعين سواء من المبتعثين أو من خريجي الجامعات السعودية الأخرى بعد إكمال دراساتهم العليا في مجالات تستحق المزيد من البحث العلمي أو التطوير التقني . ولعل من حسن حظ المملكة أن تأتي تلك المبادرات في ظروف مالية جيدة وإرادة سياسية واعية بالخيارات المتاحة والتكلفة المادية والاجتماعية لكل منها.
هناك خيارات استراتيجية واضحة أمام المملكة لبناء تنمية مستدامة للأجيال القادمة غير أن جميعها يرتكز على الاستثمار بشكل مكثف في مصدر جديد من مصادر الثروة ألا وهو المعرفة Knowledge. ذلك أن المصادر الأخرى للثروات الطبيعية التي حبا بها الله تعالى المملكة من نفط أو معادن ستنضب يوماً ما مهما طال بها الزمن. لكن بناء ثروة من المعرفة المميزة يتطلب إلى جانب المال والإدارة الماهرة وقتاً طويلاً لا يقاس بالسنين بل بالعقود وربما الأجيال. فمؤسسات التعليم العالي الراقية في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها ليست وليدة الأمس القريب، بل ترتكز على إرث متراكم من دراسات، أبحاث، وسلوكيات تبلورت عبر فترات لا يُستهان بها من الزمن . لقد بدأت فكرة الاستثمار في البحث العلمي، كما نعرفه اليوم، عبر المؤسسات الأكاديمية في القرن التاسع عشر الميلادي عندما تنبهت ألمانيا إلى ما حققه الجهد الجماعي المنظم للعلماء من زيادة في معدلات التطوير التقني للصناعة وغيرها، ثم انتقلت تلك الفكرة إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية التي دفعت بها إلى آفاق جديدة فجّرت بدورها ما يعرف بالثورة الصناعية الثالثة ما منح الاقتصاد الأمريكي قدرة هائلة على الإنتاج والإبداع.
تجعل تلك الشواهد من عامل الزمن واختصاره في بناء قدرات جامعة الملك عبد الله في البحث والتطوير أحد أهم التحديات التي تواجه الجامعة إن لم يكن الأهم. ومن ثم فإن مما يُحمد لفريق العمل المشرف على تأسيس الجامعة أن شرع في وقت مبكر نسبياً في التعامل مع «قضية عامل الزمن» بمزيج من آليات أكثرها مبتكرة. من بين تلك الآليات المبتكرة استزراع بعض برامج البحث العلمي بمشاركة مراكز عالمية رائدة في مجالات تنسجم مع تلك التي أطلقتها جامعة الملك عبد الله في المرحلة الأولى. إذ تم تكوين وحدات أبحاث تضطلع بها نُخب من العاملين المخضرمين في ذلك الحقل بتمويل من المملكة إلى أن يحين الوقت الملائم لنقل تلك الوحدات أو أجزاء منها تدريجياً من منبتها الأصلي، بعد أن يكون قد اشتد عودها، إلى تربتها الجديدة في جامعة الملك عبد الله.
كما أن من بين الآليات المبتكرة للالتفاف على عامل الزمن، البرنامج الذي أطلقته الجامعة في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2007م تحت مسمى «علماء الملك عبد الله King Abdullah Scholars» ويهدف إلى استثمار طاقات المبدعين من طلبة الدراسات العليا (مرحلة الدكتوراه) المنخرطين في أبحاث رصينة في العلوم والتقنية في المؤسسات الأكاديمية المشهود لها بالتفوق عالمياً . وتم في المرحلة الأولى من البرنامج اختيار نحو 20 باحثاً من أولئك الشباب الواعدين من أرجاء العالم، وفي مقدمتهم السعوديون بالطبع ممن تنطبق عليهم الشروط، وفق معايير دقيقة تؤهلهم لتمثيل جامعة الملك عبد الله كسفراء لها في تلك المؤسسات الأكاديمية. ومن خلال ذلك البرنامج حظي أولئك العلماء الشباب بدعم معنوي ومادي سخي من الجامعة أعانهم في دفع عجلة أبحاثهم إلى آفاق جديدة.
تسير كل تلك الآليات المبتكرة التي تبنتها جامعة الملك عبد الله لاختصار الزمن في بناء قدراتها جنباً إلى جنب مع الجهود المتواصلة لجذب عدد كبير من العلماء المتميزين عالمياً، تعززها اتفاقات تعاون مع بعض من خيرة مراكز الأبحاث في كل من أمريكا الشمالية، أوروبا، وآسيا . غير أن الحديث لا ينتهي هنا، ذلك أن البرامج التي شرعت فيها جامعة الملك عبد الله لن تساهم في اختصار زمن بناء قدراتها فحسب بل ستفتح نوافذ عدة أمام مملكة الإنسانية للتواصل عبر جسور دائمة تم بناؤها مع مراكز الأبحاث العالمية ومشاركتهم في كل ما يستجد مستقبلاً ما يكفل جودة ونوعية الأبحاث في جامعة الملك عبد الله وفق معايير معترف بها على مستوى المعمورة . بمعنى آخر أن جامعة الملك عبد الله توفر ساحة للحوار البناء وتلاقح الأفكار مع حضارات وثقافات متعددة تشارك فيه صفوة من الأفئدة والعقول.
لذا، ليس من المبالغة القول إنه كلما تمعن المرء في فكرة إنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية تبدت له ملامح وآفاق جديدة من الإبداع في ذلك المشروع الحضاري الكبير، وهو أمر ليس مستغرباً عندما أتى ذلك المشروع في إطار رؤية شاملة تبناها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز تستشرف مستقبل هذه الأمة من منظور تاريخي فحواه أن التقدم الاقتصادي للأمم لا يدوم إن لم تسنده قاعدة متينة من أدوات البحث والابتكار في نظام اجتماعي ينعم بالأمن والاستقرار. تلك الرؤية الحكيمة أثبتتها تجارب الشعوب خلال القرنين الماضيين شرقاً وغرباً.
لقد انقضى أقل من ثلاث سنوات منذ أن أعلن خادم الحرمين الشريفين قراره بإنشاء جامعة للأبحاث من الطراز الأول، وهاهو قد أوفى بوعده بتحقيق حلمه في زمن قياسي أدهش العالم. لذا لا تقولوا إن زمن صنع المعجزات قد ولى.