قضية فلسطين .. مد وجزا.. ثم مد

حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي، أي قبل ستة عشر عاما فقط، كانت القضية الفلسطينية في أوج توهجها في ضمير كل عربي ومسلم، وكان نضال الشعب الفلسطيني وكفاحه الطويل وصبره وتحمله الأسطوري وإصراره على حقه، وخصوصا في انتفاضتيه العظيمتين انتفاضة الحجارة عام 1987م وانتفاضة القدس عام 2000م، قد أكسبت القضية احترام العالم وشعوره بأنه فعلا لا يضيع حق وراءه مطالب، وقد أثبت الشعب الفلسطيني بأنه فعلا مطالب عنيد لحق عتيد وليس حقا بني على خرافات وأساطير مكذوبة ومزيفة، وهذا الإصرار والصمود الفلسطيني هو ما أجبر العدو الصهيوني أن يسلم بالحقيقة المرة في حلقه وهي أن الشعب الفلسطيني وقضيته حقيقة وليس وهما عربيا، فاضطر على وقع الانتفاضة وما كانت تسببه له من خوف وهلع من تطورها إلى ثورة شعبية متواصلة وقد تتحول إلى استخدام السلاح من ناحية، وتعاطف العالم مع القضية وهو يرى أطفال الحجارة يواجهون مدرعات ودبابات أعتى قوى البغي والعدوان بحجارة أرضهم بكل جسارة وشجاعة من ناحية أخرى، أجبر على توقيع اتفاقية ''أوسلو'' التي اعترف فيها أن الشعب الفلسطيني موجود، بعد أن كان يتبجح على العالم بأن فلسطين أرض بلا شعب، عاد إليها شعب ''اليهود'' بلا أرض، وهذه هي القيمة الوحيدة لاتفاقية أوسلو، أما ما عداها فمجرد وعود وعهود تفرقت كما يتفرق الدخان في الهواء، وإلا أين ذهبت البنود الأخرى .. وكيف تحولت التعهدات إلى أوهام وسراب بات يجري خلفه الفلسطينيون بلا جدوى .. !!؟ .
أوسلو استخدمت من أجل إطفاء الانتفاضة فقط، وإلهاء الفلسطينيين بمظاهر وشكليات هامشية وفارغة من أي مضمون، فجاءت السلطة الفلسطينية كأحد هذه المظاهر، ومع مرور الوقت تأكد أن هذه السلطة عليها أن تبقى بلا سلطة ولا قيمة ولا قرار، ولذلك تهرب العدو وراوغ وناور على مدى السنوات التي أعقبت توقيع اتفاقية أوسلو من تطبيق أي اتفاق أو الالتزام بأي واجبات وتنفيذ أي قرارات، إلا أن صبر الفلسطينيين نفد بعد أن أدركوا خداع الصهاينة واستراتيجيتهم بالتفاوض من أجل التفاوض فقط، فانفجرت انتفاضة القدس بعد قيام الإرهابي والمجرم شارون بتدنيسه للقدس الشريف في تحد بعد فشل مفاوضات '' كامب ديفيد '' التي عرض فيها على ياسر عرفات، رحمه الله، حلا للقدس حمل خبث ولؤم اليهود وخضوع الأمريكان لهم حين قالوا إن ما فوق الأرض للفلسطينيين وما تحته لليهود، فرفضه أبوعمار، وهو ما دفع بالإرهابي الآخر يهودا باراك وزير حرب العدو حاليا، ورئيس وزرائه آنذاك، لتهديد عرفات بأن فشل المفاوضات سيؤتي بشارون رئيسا للوزراء، وقيل إن عرفات رد عليه بأنه لو وافق على هذا الحل فسيأتي الشعب الفلسطيني بالشيخ أحمد ياسين رحمه الله.
اليوم ومع مجيء عنصري مثل نتنياهو للسلطة في كيان العدو ومعه أحزاب صهيونية متطرفة، ويتقدمها ''ليبرمان'' المصنف بأنه وأحد من أخبث العنصريين وأشدهم بجاحة وصفاقة، تدخل القضية الفلسطينية مرحلة حرجة وبالغة الخطورة، فالفلسطينيون انشغلوا بأنفسهم بعد الانشقاق الحاصل اليوم بينهم، وتحولت القضية من قضية كفاح ونضال وجهاد، إلى تفاوض سياسي لا يستند لأي أرضية يرتكز عليها، فأوسلو مثلا جرت مفاوضاتها ووقع عليها تحت ضغط الانتفاضة، وهو ما يجعلنا نسأل بعد توقف النضال والمقاومة والتي بات البعض يرى أنها شكل من أشكال العنف، على ماذا سيستند المفاوض الفلسطيني ..!!؟.
المطروح الآن ليس حلا، بل مسعى لتصفية القضية وبأبخس الأثمان، وهذه التصفية تقوم على ثلاثة أركان أساسية، الأول مطالبة نتنياهو للفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الكيان الصهيوني، وفي هذا منحة قانونية وليس شرعية طرد ما تبقى من فلسطينيين تمسكوا بأرضهم وبقوا عليها صامدين فيما عرف بفلسطينيي 48م، بل والأخطر من ذلك طرد فلسطينيي الضفة الغربية لاحقا التي مازالوا يسمونها ''يهودا وسامرا ''، والأكثر خطورة هو تحقيق مقولتهم أن الأردن هو الوطن الفلسطيني البديل، والركن الثاني تهويد القدس كاملة والقضاء على عروبتها وإسلاميتها حتى مسيحيتها، وترك العدو يهود القدس ويطلق رعاع اليهود المتدينين والعنصريين لتهديد أساسات المسجد الأقصى تمهيدا لهدمه وإقامة هيكلهم المزعوم دونما وقفة عربية إسلامية صارخة وجادة هو بداية تهويدها فعليا، وثالث الأركان مطالب التطبيع العربي مع كيان العدو يقدمه العرب كبادرة حسن نوايا، وهذه خدعة وأكذوبة يراد منها إيجاد غطاء عربي لتصفية القضية الفلسطينية.
المؤسف بل والمحزن أن هذه الأجواء هي السائدة حول القضية الفلسطينية، فالفلسطينيون خبت نبرة نضالهم وخف صوت جهادهم وتخلوا عن ثوريتهم واستعاضوا عنها بالاختلاف والانشقاق والتخوين من ناحية، والعرب تراجع حماسهم وقل عنفوانهم تجاه القضية الأم والأهم في هذا الصراع الذي كتبه الله علينا مع هؤلاء اليهود الصهاينة من ناحية أخرى، وهذه أجواء تصفية قضية، وليست أجواء إيجاد حلول لها، ولهذا يتهرب العدو من مبادرة السلام العربية، لأنه يشعر بأنه يستطيع أن يأخذ دون أن يدفع.
مع كل هذه السلبيات، ستظل قضية فلسطين والقدس الشريف في ضمير كل عربي ومسلم، فهي قضية مقدسات وتاريخ وهوية عربية إسلامية، وفلسطين وقدسها ليست خاصة بالفلسطينيين، بل قضية الأمتين العربية والإسلامية، وشاهدة على مجتمع دولي منافق ويكيل بمكيالي جور وظلم، وسنظل نقول كما كان يقول أبو عمار رحمه الله ''سيقوم شبل من أشبالنا وزهرة من زهراتنا برفع أعلام فلسطين على أسوار القدس''، وهذا ما سيحدث طال الزمن أم قصر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي