الديوان .. مؤسسة (إدارية ـ مالية) عريقة في تاريخنا

كان اهتمام المؤرخين العرب عموماً، منذ مطلع القرن العشرين، بالتاريخ السياسي للأمة، وتاريخ الحكّام والوُلاة وحركات الثورات والعصيان، ثم بدأ الاهتمام بالتحول نحو التاريخ المحلّي أو الوطني، حتى استغرقهم هذا التوجّه وقتاً طويلاً، وبخاصة بعد توجّه الدولة الحديثة في البلاد العربية إلى تأطير تاريخ وطني خاص بها. وجاء الاهتمام بتاريخ المؤسسات المالية والاقتصادية والتجارية والإدارية محدوداً، لأن هذا الأمر بحاجة للتخصص وللتعمّق، في زمن ما زلنا فيه في عجلة من أمرنا. وعلى العكس من ذلك، عُني المستشرقون بهذه القضايا وأولوها اهتمامهم الكبير، مستفيدين من الخبرة التي اكتسبوها أو اطلعوا عليها من خلال جهود زملائهم في دراسة تاريخ بلدانهم، أو تناولهم لتاريخ الإمبراطوريات ومؤسساتها التي ظهرت ثم اختفت، مثل الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الروسية.
إن العقائد والأيدلوجيات التي عرفتها أوروبا في القرن التاسع عشر، مثل الماركسية كما عرّفها كتاب "رأس المال" لكارل ماركس (ت 1883م)، ونظرية التقدم، ونظرية التطور البشري لتشارلز داروين، ونظرية الزيادة السكانية، مقابل ثبات الموارد لمالثوس، حفّز معتنقي هذه النظريات، أو الذين ناقضوها، للعودة للتعمُّق في دراسة التاريخ في بُعدَيه الاجتماعي والاقتصادي.
ومن هنا أصبح التاريخ الاقتصادي واشتقاقاته، مثل تاريخ المالية العامة والثروة والتجارة والخدمات المالية، والخدمة المصرفية يمثِّل توجُّهاً كبيراً وعميقاً في الدراسات التاريخية الحديثة للمجتمعات المتقدمة اليوم، وما زال التاريخ العربي ـ الإسلامي بحاجة ماسة لمثل هذه الدراسات حتى لا تأتي المعالجات على مستوى فعل الفرد المجتزأ من مضمونه الاجتماعي وإطاره الفكري. وتدعونا هذه الملاحظة ومثيلتها إلى التعرف على موارد تاريخ الأمة لنجدها فيما ورثناه من تجارب الدول العربية الأولى التي قامت في اليمن والدول التي ظهرت على تخوم الجزيرة، متذكرين هنا أيضاً الهجرات العربية المبكرة قبل الإسلام إلى بلاد الشام، وما ترتّب على ذلك من قيام دويلات عربية اعتمدت تقديم الخدمات التجارية مصدر دخلٍ لها، مثل دولة الأنباط في جنوبي بلاد الشام، ودولة تدمر. ومثل هذه الهجرات وصلت إلى مصر والسودان، ونُذكِّر هنا بتجربة دار الندوة بمكّة المكرّمة.
والمورد الثاني يتشكّل مما يمثِّله تاريخنا من تجارب الأمم الأخرى التي دخلت في دار الإسلام، وبجانب هذا وذاك تجربة المدينة المنورة في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه من بعده، وبخاصة تشريعات الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ صاحب فكرة الديوان الذي دوّن فيه أسماء الجند المقاتلة وذراريهم، بما في ذلك القبائل العربية والجماعات من الموالي التي لحقت بالمقاتلة في الأمصار. ولما زادت أعداد المشمولين بالديوان، نشأ بجانب الديوان بالمدينة دواوين في الأمصار، مثل البصرة والكوفة والفسطاط بمصر، ويمكن القول إن عملية التسجيل هذه شكّلت المحاولات الرسمية المبكرة لإحصاء وتدوين أسماء شريحة كبيرة ومهمة من العرب، وكانت هذه الإحصاءات تخضع للمراجعة والتدقيق، إلى أن زادت الأعداد ونضبت الموارد، فأُلغي الديوان مع أواخر القرن الثالث الهجري.
وكما هو معروف، فإن فكرة الديوان قد "فرخت" فظهر ديوان الخراج وديوان الرسائل وديوان النفقات. ونلحظ أن الدولة الإسلامية في العهد الراشدي والسفياني أبقت بعض الدواوين بلغاتها الأصلية، مثل القبطية واليونانية والفارسية، إلى أن أمر الخليفة عبد الملك بن مروان (حكم 65-86هـ/685-705م) بتعريبها، واستغرقت عملية التعريب زمناً طويلاً، حتى أننا نجد أوراقاً من البردي من مصر وبلاد الشام والعراق مكتوبةً بثلاث لغات، وهذا يستدعي القول إن أولي الأمر من المسلمين قد أبقوا على الأجهزة القائمة للجباية في البلاد التي افتتحوها، فاستخدموا الدهاقين في بلاد فارس في جباية الخراج في تلك البلاد، وأصبحوا فيما بعد بمثابة بنوك محلية لإقراض الناس، كما استُخْدِمَ المسيحيون واليهود في جباية الضرائب أو تدوينها أو الالتزام بجمعها، وتعزّز هذا الأمر إبان العصر العثماني.
ونلحظ أن الأسر الكبيرة والقوى المحلية المتنفِّذة في بلاد الشام ومصر، وبعضها من جذور عسكرية، كانت تعتمد على المسيحيين وعلى الصيارفة اليهود في إدارة أمورها المحلية، مثل أسر حبيش والخازن والصبّاغ وفارحي وغيرها في بلاد الشام وإن طلب بعض الخلفاء أو الأمراء إخراج أهل الذمة من هذه الخدمة، فإن ذلك لم يكن إلا في حالات استثنائية، ولا تُشكِّل عُرفاً عاماً إلى أن سقطت الدولة العثمانية. ونجد بعد قيام الدولة الحديثة أن الشؤون المالية بقيت تُناط عموماً بالمسيحيين وباليهود، فكان من هاتين المجموعتين وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية، مما يدلّ على أن الدولة كان تفيد من مهاراتهم ولا تضطّهدهم أو تصادرهم إلا في حالة عجز الدولة المالي، وأن المصادرة لم تكن قصراً عليهم بل كانت تطال كبار التجار وكبار رجال الدولة من الوزراء والكُتّاب وأصحاب الدواوين وغيرهم.
من هنا عرفت الدولة العباسية ديوان المصادرات، وما دام الحديث عن الديوان، فقد بلغ أرفع درجاته إبان العصر المملوكي في مصر، حيث أطنب أصحاب الموسوعات الكبرى، مثل شهاب الدين أحمد النويري (ت 733هـ/1333م)، صاحب "نهاية الأرب"، وأحمد بن علي القلقشندي (ت 821هـ/1418م)، صاحب "صبح الأعشى"، وغيرهما، في توصيف اختصاصات كل ديوان بكل دقائقه، وبيّنوا مؤهلات من يشغله، مع بيان نوع المكاتبات الموكولة لكل ديوان.
وكان الديوان الهمايوني في دار السعادة باستانبول عنوان نضوج هذه المؤسسة ورقيِّها، وظهر الديوان من جديد في الدول العربية اليوم فيما يُعرف باسم الديوان الملكي، أو ديوان رئاسة الجمهورية، أو ديوان أمير البلاد، وما إلى ذلك. حتى أن إدارة المراسلات في الدوائر الحكومية تتم من خلال تنظيم يُشار إليه بالديوان. ومن هنا يبقى الديوان الذي ورثناه عن التقاليد الإدارية الفارسية يمتد في حياتنا الإدارية إلى يومنا هذا. والطريف أن نابليون بونابرت، عندما غزا مصر عام 1798م، أسّس فيها الديوان الذي أشرك في عضويته كبار علماء مصر وشيوخها، وقام مؤخراً كل من المستشرق الفرنسي أندريه ريمون وأستاذ التاريخ بجامعة القاهرة محمد عفيفي، بنشر محاضر الديوان بقلم أحد أعضائه الشيخ إسماعيل الخشّاب (ت 1815م). وتعتبر تجربة الديوان بمصر من أقدم تجارب توطين المشاركة الأهلية بأسلوب الثورة الفرنسية.
لاحظنا أن الديوان الأول قام لمعالجة أعطيات المقاتلة وذراريهم من القبائل التي شاركت في الفتوحات، وتُطالعنا أخبار متفرقة من ثنايا كتب التاريخ والأدب، وفيما بعد في سجلات التركات وحُججها، حول دخل كبار المسؤولين في الدولة في زمانهم، فيذكر مثلاً أن دخل الليث بن سعد الفهمي (ت 175هـ/791م) إمام أهل مصر ـ من أملاكه في مصر كانت ثمانين ألف دينار سنوياً، وكان دخل القاضي الفاضل (ت 596هـ/1200م)، كاتب صلاح الدين، نحو خمسين ألف دينار، سوى متاجره في الهند والمغرب. أما الأمير المملوكي سلاّر التتري المنصوري (ت 715هـ/1315م) فكان مئة ألف درهم في كل يوم. وإذا نظرنا لأحد الأطباء بمصر، القطيعي، تذكر المصادر أنه كان يكسب في كل شهر ألف دينار من رؤساء العسكر ومن السلطان ومما يأخذ من العامة. ولم تكن هذه الدخول المالية متاحة للجميع، بل لقلة محدودة، ومن هنا استشرت ظاهرة المصادرات، ولقد درس عبد الرحمن بن خلدون (ت 808هـ/1406م) مثل هذه الظواهر، فقدّم لنا تحليلاً رائعاً عندما قال: "استمرار الدولة وتعاقب ملوكها وكثرة نفقاتهم تؤدي إلى الزيادة في الجباية على الفلاحين والرعايا والعمال". فلو عاش ابن خلدون في زماننا هذا ولحظ بعينه الثاقبة الضرائب والرسوم وبدل الأتعاب والفوائد المصرفية التي يدفعها الواحد مِنّا، ما عساه أن يقول؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي