التنافسية بالجودة.. مخرج البتروكيماويات السعودية من مأزق الإغراق
نقلت جريدة «الاقتصاديه» قبل أيام عن بيانات رسمية أن (صادرات السعودية من البتروكيماويات سجلت تراجعا سنويا أكبر في تموز (يوليو) وسط تباطؤ للطلب الخارجي، وبلغت نسبة الانخفاض 27.8 مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي). وقبل فترة قصيرة كانت كل من الصين والهند قد أقامتا دعاوى ضد بعض شركاتنا المنتجة للبتروكيماويات تتهمانها فيها بالإغراق، والحقيقة أنني غير قادر على الفصل بين تلك البيانات وتلك الدعاوى، فالإغراق عموما يقود إلى إجراءات تعرقل وصول المنتج إلى أسواق الدول صاحبة الدعاوى نتيجة الإجراءات الحمائية التي تتخذها تلك الدول، ومن خلال تعريف الإغراق يمكن القول إن السلعة تعد مغرقة إذا كان سعر تصديرها إلى السوق المحلى (السعر الذي يدفعه المستورد في السلعة المستوردة بعد إجراء التسويات اللازمة كافة) أقل من قيمتها العادية في بلد التصدير (سعر بيع السلعة بالسوق المحلى لبلد التصدير بعد إجراء التسويات اللازمة كافة).
والتسويات اللازمة هي: التكاليف، المصروفات، النفقات التي تدفع نظير إعداد السلعة للشحن للدولة المستوردة أو تلك التي تدفع نظير إعداد السلعة للبيع في السوق المحلي لبلد التصدير.
وفي حالتنا نحن يعني ذلك أن سعر بعض المنتجات البتروكيماوية التي تنتجها شركاتنا الوطنية كانت تباع في أسواق الهند والصين بأقل من سعر بيعها في السوق السعودي. وقد رأينا في وسائل الإعلام المختلفة بعد أن تواترت إلينا أخبار تلك القضايا فيضا من الآراء التي راوحت بين النقد والتحليل والتوصيات بما يجب وما لا يجب عمله. ومع احترامي المطلق لكل تلك التحليلات، خاصة التي ركزت على إيجاد مراكز متخصصة للتصدي إلى مثل تلك الدعاوى، إلا أنني أعتقد أن هناك خللا كبيرا في هيكلية صناعة البتروكيماويات لدينا، خصوصا إذا ما استخدمنا مفهوم التنافسية كمعيار لقياس أدائها. ونقصد بالتنافسية على مستوى الشركة: القدرة على تزويد المستهلك بمنتجات وخدمات أكثر كفاءة وفاعلية من المنافسين الآخرين في السوق الدولية، الأمر الذي يعني نجاحا مستمرا لهذه المؤسسة على الصعيد العالمي في ظل غياب الدعم والحماية من قبل الحكومة، ويتم ذلك من خلال رفع إنتاجية عوامل الإنتاج الموظفة في العملية الإنتاجية. أما التنافسية على مستوى القطاع فتعني: قدرة المؤسسات المنتمية لقطاع صناعي محدد في دولة ما على تحقيق الإنتاج المستمر في الأسواق الدولية دون الاعتماد على الدعم والحماية الحكومية، الأمر الذي يقود إلى تميّز هذه الدولة في تلك الصناعة. والحقيقة أن قياس القدرة التنافسية للصناعة في دولة معينة يمكن تقييمه من خلال نموذج الماسة الصناعية التي طورها البروفسور مايكل بورتر؛ الأستاذ في جامعة هارفارد الأمريكية. وهذه الماسة تتكون من أربعة أطراف يقع في كل طرف أحد الأعمدة التي تقوم عليها تنافسية المنشأة والصناعة. ويمكن وصف هذه الأطراف الأربعة كما يلي:
1) الطرف الأول يمثل محور الطلب أو السوق أو المشترين ويتم التركيز هنا على ما يريده السوق أو المشتري وتقديم السلعة أو الخدمة التي يريدها بأسعار السوق ولكن بمواصفات أفضل.
2) أما الطرف الثاني فيتم من خلاله دراسة استراتيجيات الشركات ومستويات التركيز في الصناعة وهيكلها كما يتم دراسة المناخ التنافسي للصناعة.
3) الطرف الثالث هو محور مدخلات الإنتاج فإضافة للاهتمام بالكم يتم التركيز على نوعية ومدى تخصص عناصر الإنتاج.
4) أما الطرف الرابع فهو الصناعات المساندة، التي لها صلة بالصناعة قيد البحث. ويتم التركيز هنا على وجود أو عدم وجود الصناعات المساندة وعلى عمق واتساع خريطة العنقود الصناعية، فالصناعة المساندة لها أهمية كبيرة في تكامل الصناعة ككل وجعلها منافسة عالميا.
وأنا هنا سأستعرض محددات تلك الماسة بالمقارنة بواقع الحال في صناعة البتروكيماويات لدينا كما ظهرت لنا من خلال تصريحات المسؤولين والمحللين أثناء الأزمة وسأبدأ بالطرف الأول الذي يتعلق بجانب الطلب والسوق.
1- الطلب على البتروكيماويات
ليس هناك شك في أن هيكلية الطلب على البتروكيماويات السعودية قد تغيرت في ضوء الأزمة المالية العالمية ودخول عديد من الدول التي تملك المواد الأولية اللازمة لإنتاج البتروكيماويات إلى سوق المنتجين ولعل أهم تلك الدول هما الصين والهند، وبالتالي كان متوقعا أن تقوم تلك الدول بإجراءات لحماية منتجاتها من المصدرين إلى أسواقها بكل الوسائل المتاحة لديها بما في ذلك رفع دعاوى إغراق. وفي الواقع أن ما يهمني هنا هو ردود فعل شركاتنا تجاه هذا المتغير والسلوك الذي تبنته تلك الشركات لمواجهة دعاوى الإغراق التي قامت بها كل من الصين والهند، حيث كان هناك تباين في ردود الفعل بين شركة سابك من جهة وموقف بقية الشركات من جهة أخرى، ففي حين قللت سابك من أهمية تلك الدعاوى واعتبرت أن العلاقة بالصين علاقة استراتيجية، كان موقف الشركات الأخرى ينذر بالثبور وعظائم الأمور إذا لم نتصد بكل حزم لهذه الدعاوى، علما أن تلك الشركات كانت تقلل في الوقت نفسه من أهمية النسب التي تصدرها للهند والصين، مع التأكيد على قدرة تلك الشركات على تحويل شحناتها إلى جهات أخرى.
وهذا التباين في المواقف يوضح بجلاء مدى الفارق في فهم جانب الطلب واستيعاب المتغيرات المتعلقة بالأسواق بين كل من شركة سابك وبقية الشركات، فشركة سابك أدركت على سبيل المثال أن الصين تحتاج إلى استيراد التقنية والحصول على التمويل لإنشاء مصانعها الخاصة بها أكثر من حاجتها إلى استيراد المنتجات البتروكيماوية من الدول الأخرى، وهو ما دفع بسابك إلى الدخول كشريك مع الصين لإنتاج البتروكيماويات، وهذا التوجه يجعل «سابك» تضمن نصيبا وافرا ومستمرا في السوق الصينية. بمعنى آخر أن سابك تبنت استراتيجية قائمة على التكامل بدلا من المواجهة، بينما اختارت الشركات الأخرى المواجهة بدلا من التكامل.
إن سابك بخطوتها تلك أدركت بخبرتها وتجاربها المتراكمة ما غاب عن الشركات الحديثة نسبيا في هذا المجال. الغريب أن الشركات الأخرى، بخلاف «سابك»، كانت تؤكد أن الكميات المصدرة إلى سوق الهند والصين هي كميات قليلة ولا تزيد نسبتها على 10 في المائة من إجمالي صادراتها وأنها أيضا تملك أسواقا بديلة، إذا كان الوضع هكذا فلماذا الخوض في مواجهة مع تلك الدول وهي أسواق استراتيجية ومهمة بالنسبة لنا وكان البديل الممكن هو أن ندخل معهم كشركاء من خلال توفير التمويل والتقنية وإنشاء شركات مشتركة على غرار ما حصل في بترو رابغ، ولا يمنع أن يكون التمويل من خلال سوق الأوراق المالية وذلك أما من خلال رفع رؤوس أموال الشركات القائمة أو السندات والصكوك الإسلامية أو حتى من خلال ترتيب قروض من البنوك المحلية.
لا شك أن لكل شركة فلسفة تبني عليها استراتيجيتها وعبرها تحدد الموقع الذي تحتله في تلك الصناعة.
2- استراتيجية شركات البتروكيماويات
لا شك أن الإغراق والتنافسية يقعان على طرفي نقيض فالإغراق أداته تخفيض الأسعار بينما أداة التنافسية هي رفع مستوى الجودة. ولقد حدد مايكل بورتر استراتيجيتين ممكن أن تبني عليهما الشركات ميزتها التنافسية:
تتعلق الأولى بالتكلفة والأخرى بالتميز، حيث على المنشأة أن تختار بين تنافسية التكاليف التي تعني القدرة على تصميم وإنتاج وتسويق سلعة أو خدمة أكثر كفاءة من السلع والخدمات المنتجة من قبل المنافسين وسعرها مساو أو مقارب لأسعارهم. وهذا ببساطة يعني أن ننافس في مستوى الجودة لا السعر، أو بمعنى آخر أن يكون سعر منتجنا مساو بالأسعار المنتجات الأخرى ولكن أفضل منها على مستوى الجودة.
أما الاستراتيجية الأخرى التي من الممكن أن تتبناها فتقوم على تنافسية التميز، وهذا يعني أن تقوم المنشأة على تقديم سلعة متميزة وفريدة في خصائصها من حيث النوعية وخدمات ما بعد البيع بحيث يجد المشتري السلعة ذات قيمة عالية للغاية، والمثال على ذلك سيارات «بورش» أو ساعات «رولكس» وهو أمر لا ينطبق على منتجات البتروكيماويات التي في الغالب تكون سلعا وسيطة تسهم في إنتاج سلع أخرى. لذا فإن شركاتنا يجب أن تبني تنافسيتها على التكلفة وليس التميز، وبعد تحديد الاستراتيجية لا بد من تحديد المجال الذي تتحرك فيه الشركة والذي يشمل مدى تنوع المنتجات وقنوات التوزيع لتلك المنتجات وأنواع المشترين الذين ستخدمهم والمناطق الجغرافية التي ستغطيها.
وهنا نجد مرة أخرى اختلافا بين «سابك» وباقي الشركات ففي حين بدأت شركة سابك في تغيير المجال الذي تتحرك فيه عبر الدخول بشراكات جديدة مع شركة مثل ميتسوبيشي اليابانية وإنتاج منتجات تحتاج لها السوقان الصينية والهندية، انشغلت الشركات الأخرى بالدفاع عن نفسها في قضايا الإغراق بدلا من البدء في تغيير مجالها عبر مراجعة المناطق الجغرافية التي تغطيها وأنواع المشترين الذين تخدمهم، لاسيما أنها لا توجه مشكلة من تحويل منتجاتها إلى أسواق أخرى ومشترين آخرين.
3- مدخلات الإنتاج في صناعة البتروكيماويات
من المعلوم أنه لا يمكن إنتاج سلعة أو خدمة من دون توافر المواد الخام أو الموارد الطبيعية والقوى العاملة والآلات، أو ما يطلق عليه الاقتصاديون رأس المال. وفي صناعة البتروكيماويات بالذات نحتاج إلى القوى العاملة المدربة والتكنولوجيا المتقدمة، إضافة للموارد الطبيعية المرتبطة بالنفط، وشركاتنا تحصل على المواد الخام اللازمة للإنتاج بأسعار مخفضة وإن كانت هذه الميزة متوافرة لسنوات محدودة، إلا أن هذه الميزة يجب أن تستغل استغلالا صحيحا، فانخفاض أسعار القيم يجب أن يستفاد منه في زيادة هامش الربح الذي يجب أن يوجه إلى تدريب القوى العاملة الوطنية وعلى الأبحاث والتطوير، لا أن يستغل في إغراق الدول الأخرى، ومع أني لا أعلم بالتحديد إلى أي مدى شجعت الأسعار المخفضة للمواد الخام شركاتنا على تخفيض أسعارها إلا أننا يجب أن ندرك أنه فقط من خلال جودة منتجنا وكفاءة إداراتنا نستطيع أن ننافس وليس بتخفيض الأسعار.
4- الصناعات المساندة لصناعة البتروكيماويات
في الحقيقة أجهل طبيعة صناعة البتروكيماويات وطبيعة الصناعات المساندة التي تحتاج إليها، ولكني أعرف أنها شأنها شأن أي صناعه أخرى تحتاج إلى خدمات مساندة مثل النقل والتوزيع والتخزين والتغليف وما إلى ذلك، وإذا كان لدينا مجموعة شركات تعمل في القطاع نفسه فيمكن لها التنسيق فيما بينها والعمل على تخفيض التكلفة وأنا أعرف أن شركة مثل بترو رابغ تملك مستودعات عائمة في سنغافورة، فهل يمكن للشركات الأخرى الاستفادة منها أو على الأقل الاستفادة من المعارف التي تملكها بترو رابغ بخصوص تلك التقنية.
خلاصة القول إن تراجع مبيعاتنا في قطاع البتروكيماويات يعود في جانب منه إلى الأزمة العالمية، ولكنه يعود في جانب آخر إلى دعاوى الإغراق التي قامت بها دول مثل الصين والهند وإن الرد الأمثل على دعاوى الإغراق يجب ألا يكون قانونيا فقط، بل يتم من خلال الخروج نهائيا من دائرة الاتهام وذلك من خلال تعزيز وترسيخ قيم التنافسية في الصناعات المختلفة، وهو دور مناط حاليا بمركز التنافسية الوطني، الذي أتمنى أن يكون لديه المبادرة لجمع شتات شركات البتروكيماويات ضمن استراتيجية محددة وموحدة تضمن تنافسية تلك الصناعة وتؤسس لتنافسية الصناعات الأخرى.