الناجون الحقيقيون لا يتعلقون بقشة

الناجون الحقيقيون لا يتعلقون بقشة

كان الكتاب الذي ألفه جيم كولنز بعنوان «شُيّد ليبقى» Built to Last واحداً من أفضل الكتب التي تتحدث عن العمل في العقدين الماضيين. ومن أهم الأفكار التي يتطرق إليها «مفارقة ستوكديل».
كان جيمس ستوكديل أرفع جندي أمريكي يقع في الأسر خلال حرب فيتنام (ختم حياته العملية بصورة محزنة مرشحا غير مناسب لمنصب نائب الرئيس، في محاولة روس بيرو غير الواقعية للفوز بالرئاسة عام 1992). وقد تعرض ستوكديل طيلة سبع سنوات من الأسر لشتى أنواع التعذيب والضرب المتكرر على أيدي الفايتكونج.
تحدث ستوكديل عن الحالة العقلية التي لازمته خلال المعاملة السيئة الطويلة والوحشية التي تعرض لها. وشرح كيف أنه لم يفقد الأمل في إطلاق سراحه أو إنقاذه ولو بعد حين، غير أنه رد باستسلام، على الأحداث اليومية التي كان يدرك أنه لا يستطيع أن يؤثر فيها. وأطلق كولنز تعبير «مفارقة ستوكديل» على هذا الجمع بين الإيمان والنظرة العملية للأمور. ولاحظ ستوكديل أن الذين قضوا في الأسر كانوا في الغالب من المتفائلين؛ الأشخاص الذين كانوا يقولون: «سنخرج من الأسر في عيد الميلاد». وقد تحطمت إرادتهم عبر خيبة آمالهم المتكررة.
عبر السياسي البريطاني الراحل، روي جنكنز، عن موقف ستوكديل بعبارات تنبض بالحياة: «إن التعلق بالأوهام يكون خطأ فقط عندما يفشل في تقديم الدعم، وعندما يتخلى الشخص الذي يتعلق بالأماني عن المقاومة ويغرق معها». كان جنكنز يقدم وصفاً خطيراً لمفارقة ستوكديل – وهي الحال المزاجية التي مر بها ونستون تشرشل بعد أن أصبح رئيساً للوزراء عام 1940. فعندما سقطت فرنسا، كرر تشرشل التأكيد على أن هدفه ليس البقاء فقط، بل تحقيق النصر. لكن لا تشرشل ولا أي زعيم بريطاني آخر كانت لديه أية فكرة واقعية عن كيفية تحقيق ذلك الهدف. وحتى لو لم يقم الألمان بغزو بريطانيا، فإن غزواً بريطانياً لأوروبا من غير مساعدة ودعم كبيرين أمر غير متصور. كان تشرشل يدرك أن المشاركة الأمريكية في الحرب شرط مسبق لتحقيق ذلك الهدف، لكن لم تكن لديه وسيلة ولا خطة لتحقيق هذه المشاركة. الحدثان اللذان غيرا اتجاه الحرب – وهما فشل الهجوم الألماني على روسيا والهجوم الياباني على بيريل هاربر – لم يكن بالإمكان توقعهما، ولم يتم توقعهما.
كان افتقار ستوكديل لحرية التصرف واضحاً بشكل خاص. فقد كان تشرشل من ناحية يتمتع بسلطة كبيرة - كان زعيماً لإمبراطورية واسعة وآمراً لآلة عسكرية قوية. لكن تصرفاته كانت مقيدة بشكل كبير بظروف لم يكن له تأثير عليها ولم يكن يتوقعها.
إننا نميل دائماً إلى الاعتقاد بأن لنا تأثيراً على مجريات الأحداث أكثر مما لنا بالفعل. الناس يقللون من خطر حوادث الطرق وهم جالسون خلف عجلة القيادة، لكنهم يبالغون في خطر الطيران عندما يكونون تحت رحمة مهارات الطيارين المدربين تدريباً عالياً.
رئيس الولايات المتحدة أقوى من أي شخص في العالم. لكن كما يتعلم باراك أوباما كل أسبوع، فإن مجال المناورة سواء في أفغانستان، أو بشأن الرعاية الصحية الداخلية محدود أكثر بكثير مما تدل عليه الخيارات العديدة المتاحة من الناحية النظرية. لقد اكتشف الرئيسان اللذان حكما خلال الفترة التي كان فيها ستوكديل في الأسر – ليندون جونسون وريتشارد نيكسون – أن قدرتهما على التأثير في مجريات الأحداث أقل مما كانا يعتقدان . كان جونسون واقعاً في فخ تصعيد انخراط أمريكا في فيتنام. وارتكب نيكسون أخطاء عديدة إلى أن وقعت حادثة بدأت تافهة كادت أن تعرضه لتهمة الخيانة.
إن قادة الشركات يجدون أنفسهم مقيدين بصورة مشابهة. ففي أشهر حادثة وقعت في هذا العقد، قال تشاك برنس، الرئيس التنفيذي لمجموعة سيتي جروب، لهذه الصحيفة (فاينانشيال تايمز): «ما دامت الموسيقى تعزف، عليك أن تنهض وترقص». لقد كان الشخص الذي شغل أهم منصب في صناعة الخدمات المالية أسيراً لشركته.
والجواب الوحيد لهذه المعضلات هو الجواب الذي وجده ستوكديل وأوضحه تشرشل بصورة تنبض بالحياة. عليك أن تحتفظ بشعور واضح بالأهداف طويلة المدى، لكن ينبغي لك أن تعترف بالقيود التي تحكم تصرفاتك اليومية. إن أفدح الأخطاء في عالم المال والشركات لا يرتكبها الذين لديهم سيطرة ضئيلة أو يعرفون القليل، بل الذين لديهم سلطة أو معرفة أقل مما يعتقدون.

الأكثر قراءة