المداينة من منظور الاقتصاد الإسلامي

الحمد لله والصلاة والسلام علـى خيـر خلق الله سيِّدنا وحبيبنـا وقائدنا محمَّد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم أما بعد، قال تعالى:
“يا أيُّها الذين آمنوا إذا تداينتم بدَينٍ إلى أجل مسمَّى فاكتبوه” من الآية (282) من سورة البقرة.
هذا تشريع من الله فيه مصلحة عباده، فشرَّع لهم ما يدفع الحرج ويثبِّت اليسر في التعامل وهذه هي مادة الدِّين في التعامل ما بين العباد.
ولمَّا شاع بين الناس التعامل بالمداينة وهي بيع الغائب بالناجـز أو العكس أو بيع الغائب بالغائب، أحببتُ أن أبيِّن أحكام بعض ذلك بإيجاز غير مُخل.
لذا فالمداينة لا تخرج عن ثمانية أقسام (صُور) منها ما هو حلال جائز فيه الخيـر والبركة وبعضها حرام ممنوع ليس فيه إلاَّ الشر والخسارة ونزع البركة.
فالحلال من هذه الأقسام ما يلي:
أن يحتاج الشخص إلى سلعة أو عقار فيشتريه بثمن مؤجـل لقضاء حاجته.
أن يشتري السلعة أو العقار بثمن مؤجل للاتجار بـه وانتظار زيادة السعر.
أن يحتاج إلـى دراهم فيأخذها من شخص بسلعة فيكتبها الآخذ في ذمته وهو المقصود بالسلم لحديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: “من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم”.
والحرام من الأقسام الأخرى:
(1) أن يحتاج إلى دراهم فلا يجد من يُقرضه فيشتري سلعة من شخص بثمن مؤجـل زائد على قيمتها ثمَّ يبيعها إلى غيره وهذه هي مسألة «التورق» وفي جوازها (خلاف بين العلماء) فمنهم من قال إنَّهـا جائزة لأنَّ الرجل يشتري السلعة ويكون غرضـه إمَّا عيـن السلعة وإمَّا عوضها وكلاهما غرض صحيح.
ومن العلماء من قال إنَّها لا تجوز لأنَّ الغرض منها هو أخذ دراهم بدراهم ودخلت السلعة بينهما تحليلاً وتحليل المحرَّم بالوسائل التي لا يرتفع بها حصول المفسدة لا يُغني شيئاً.
وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم: «إنَّما الأعمال بالنيات وإنَّما لكل امرئ ما نوى».
والقول بتحريم مسألة التورق هذه هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة وهو رواية عن الإمام أحمد بل جعلهـا الإمام أحمد في روايـة أبي داود من «العينة».
ولكن نظراً لحاجة الناس اليوم وقلَّة المقرضين ينبغي القول بالجواز بشروط:
1ـ أن يكون محتاجاً إلـى الدراهم فإن لم يكن محتاجاً فلا يجوز، كمن يلجأ إلى هذه الطريقة ليدين غيره.
2ـ ألا يمكن الحصول على المال بطُرق أخرى مباحة كالقرض والسلم.
3ـ ألا يشتمل العقد على ما يشبه صورة الربا مثل أن يقول: (بعتك إياها العشـرة أحد عشر) ونحو ذلك فإن اشتمل علـى ذلـك فهو مكروه أو محرَّم نقلاً عن الإمام أحمد أنَّه قـال في مثله كأنَّـه دراهم بدراهم لا يصح هذا كلام الإمام أحمد. وعليه فالطريق الصحيح أن يَعرف الدائن قيمة السلعة ومقدار ربحـه ثمَّ يقول للمستدين: (بعتك إيَّاها بكذا أو كذا إلى سنة).
(د) أن لا يبيعهـا المستدين إلاَّ بعد قبضها وحيازتها، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السلع قبـل أن يحوزهـا التجَّار إلى رحالهم وخاصة الطعام.
فإن تمَّت الشروط الأربعة فإن القول بجواز مسألة التورق متوجـه كي لا يحصل تضييق على الناس.
(2) أن يحتاج إلى دراهم ولا يجد من يُقرضه فيشتري من شخص سلعة بثمن مؤجل ثمَّ يبيعهـا بأقل ممَّا اشتراهمـا به وهذه مسألة «العينة» والهدف هو الحصول على النقد.
(3) أن يتَّفق الدائن والمدين على أخذ الدراهم العشرة أحد عشرة أو نحو ذلك، ثمَّ يذهب إلى ثالث فيشترى الدائن منه سلعة هو فـي الحقيقة شراء صوري، ثمَّ يبيعها إلى المدين، ثمَّ يبيعهـا المديـن بدوره على الذي أخذها الدائن منه.
وهذه طريقة المداينة التي يستعملها الآن كثير من الناس وهي حرام كما سيق عن شيخ الإسلام ابن تيمية ولم يذكُر خلافاً في تحريمهـا كما ذَكَر في مسألة التورق.
أن يكون لشخص علـى آخر دَين مؤجـل فيحل أجلـه وليس عنده ما يوفيه فيقول صاحب الدين: (أُدينك وتوفيني فيدينه)، وهذه طريقة أهل الجاهلية التي تتضمن أكـل الربا أضعافاً مضاعفة، إلاَّ أنَّها صريحة في الجاهلية خديعة في هذا الزمان ففيها مفسدتان.
أن يكـون لشخص علـى آخر دَين مؤجـل فيحل أجلـه ويكـون لصاحب الدَّين صاحب يتَّفق معه علـى أن يُقرض المدين أو يدينـه ليوفي الدائن ثمَّ يقلب عليه الدَّين مرَّة أخـرى، وهـذه هي طريقة الجاهلية مع إدخال الطرف الثالث المشارك في الإثم والعدوان.
وأخيرا ندعو الله أن ييسر لهذه الأمة من يقودها إلى رشدها، إنه نعم المولى ونعم النصير >

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي