قضايا الاحتكار عند الكناني في كتاب « أحكام السوق»

قضايا الاحتكار عند الكناني في كتاب « أحكام السوق»

يعد كتاب « أحكام السوق» - كما يشير المؤلف - وهو تدوين لمحاضرات ودروس كان يلقيها الفقيه المالكي الأندلسي "أبو بكر يحيى بن عمر الكناني المتوفى عام 289هـ" من أهم الكتب التي تحدثت عن موضوعات الحسبة ومراقبة الأسواق وما يحدث فيها من غش وخداع وبيع بأسعار عالية ومضاربات وحتى القضايا الأخلاقية والسلوكية، ومن القضايا التي ناقشها الكتاب قضية الاحتكار لبيع السلعة بأكثر مما تستحق عند الحاجة إليها، فقد تحدث الكناني عن قضية تسعيرة الطعام وفرضها على التجار، فقال: أخبرنا يحيى بن عمر، قال: أخبرنا وليد بن معاوية، عن عبد الرحمن بن أبي جعفر الدمياطي، قال: سئل ابن القاسم عن قول مالك: ينبغي للإمام إذا غلا السعر واحتاج الناس إلى أن يبيعوا على الناس ما عندهم من فضل طعامهم, إذا أريد بذلك الطعام التجار الذين خزنوا للبيع لا من طعام الناس, إذا كان فضل عن قوت عيالهم أو جميع طعام الناس إذا اشتدت السنة واحتاج الناس إلى ذلك، ولم يقل مالك: يباع عليهم، ولكن قال: يؤمر بإخراجه وإظهاره للناس، ثم يبيعون ما كان عندهم من فضل قوت عيالهم كيف أحبوا، ولا يسعر عليهم. قيل: وكيف إن سألوا الناس ما لا يحتمل من الثمن أو ما لم يبع به الناس؟ قال: هو مالهم يفعلون فيه ما أحبوا، ولا يجبرون على بيعه بسعر يوقت لهم، هم أحق بأموالهم، وما أرى أن يسعر عليهم، ولكن ما أراهم إذا رغبوا وأعطوا ما يشتهون من الغلاء ألا يبيعوا، وأما التسعير فظلم لا يعمل به من أحب العدل. قال يحيى بن عمر: قوت عيالهم يعني قوت سنة، كانوا تجاراً أو خزنوا لأنفسهم وحرثوا، فإنه يترك لهم قوتهم سنة، ويؤمر ببيع ما بقي عندهم.
وبعد حديثه عن السعر وظروفه انتقل إلى مشكلة الاحتكار التي يمارسها التجار في السوق وبخاصة إذا كانت السلعة شحيحة ومفقودة، وهو في هذا السياق يقدر ثلاث حالات؛ أولاها اجتماع أهل السوق على بيع مرهق للناس فلولي الأمر التدخل لصالح الناس، فيقول: وسمعت يحيى بن عمر يقول في هؤلاء المحتكرين إذا احتكروا الطعام وكان ذلك مضراً بالسوق: أرى أن يباع عليهم، فيكون لهم رأس أموالهم، والربح يؤخذ منهم، يتصدق به أدباً لهم، وينهوا عن ذلك، فإن عادوا كان الضرب والطواف والسجن لهم.
والحالة الثانية، لو أن أحد التجار امتنع عن البيع أسوة بغيره، صح لولي الأمر إخراجه من السوق، حيث إن بعض البدويين يأتون بالطعام ليبيعوه في سوق المسلمين وينزلونه في الفنادق والدور، فقال: إن على صاحب السوق أن يأمرهم ألا يبيعوه إلا في أسواق المسلمين، حيث يدركه الضعيف والقوي والشيخ الكبير والعجوز، قلتُ ليحيى بن عمر: فإن قال البدوي: تدخل عليَّ مضرة ممن يشتري مني بنصف دينار أو ثلث دينار، فمتى أرجع إلى بلدي وأنا ما أقدر أقعد أكثر من يوم أو يومين، وما معي إلا زاد يوم أو يومين؟ قال يحيى: يقال له: حط من السعر نصف الثمن أو ثلث الثمن، فتخفف على نفسك وترجع مسرعاً سريعاً إلى بيتك، وأما ما ذكرت من المقام والمضرة فأنت تريد بيعا نافق الثمن، وتريد أن ترجع إلى بلدك سريعاً، فلا تمكَّن من ذلك، لأن ذلك ضرر على المسلمين، أو تصبر فتبيع في السوق بنافق الثمن، فلا مضرة على المسلمين.
والحالة الثالثة، لو تمكن تاجر من الاستحواذ على تجارة أو سلعة بموافقة بقية التجار فإن للوالي أن يمنعهم من ذلك، ليمنع الاحتكار، قلت ليحيى بن عمر: فإن أراد الرجل الذي لا يعرف أن يبيع القمح ولا يقصد الاحتكار، وإنما يشتري لقوته سنة، فأراد أن يشتري قوت سنة في هذا الغلاء، أترى أن يمكَّن من ذلك؟ فقال: لا يمكَّن من ذلك، وقال يحيى بن عمر لصاحب السوق: من أراد أن يبيع قمحاً من بيته جلبه من منزله إلى بيته، ثم احتاج إلى بيعه وثمنه، فأراد أن يبيعه، فعرض منه قليلاً في يده في السوق، ثم اشتراه منه الحناطون، هل ترى أن يمكن الحناطون أن يكتالوه في دار البائع وينقلوه إلى حوانيتهم ؟ فقال يحيى: أرى ألا يمكن البائع أن يبيع في داره، وأرى أن ينقله إلى السوق بين المسلمين، قيل ليحيى: فإن أهل القصر عندنا ليس لهم سوق يصب فيها الطعام. فقال: أرى أن يكون بحوانيتهم ويبرزوه للناس في السوق، ويمنع الحناطون أن يشتروا في الدور إذا كان السعر غالياً مضراً بالأسواق، وإذا كان السعر رخيصاً ولا يضر بالسوق خلي بين الناس وبين السوق أن يشتروا ويدخروا ويشتروا في الفنادق وفي الدور وحيث ما أحبوا.
والكناني يرفض قضايا الاحتكار وأي شبهة تؤدي إليها حتى لو حصل ذلك عن طريق الجهل، فقد ذكر أنه قيل ليحيى بن عمر: في رجل جهل فأنزل قمحه في رحبة الطعام وليس يعرف ممن يحتكرون وإنما جاء به ليأكله، فقال: إذا صح هذا خلَّيتُ بينه وبين قمحه ينقله إلى داره، وقال القرطبي: الأصل أنه يجوز للمرء أن يبيع سلعته متى شاء، فإن نزلت بالناس حاجة ولم يوجد عند غيره طعام أجبر على البيع بسعر الوقت لرفع الضرر عن الناس، ونقل أبو محمد ابن أبي زيد في كتابه (النوادر والزيادات) عن مالك قوله: وينهى عن الاحتكار، عند قلة تلك السلعة وعند الخوف عليها. قال: وذلك في الطعام وغيره من السلع. ومن سماع ابن القاسم قيل لمالك: أفيحتكر الرجل ما عدا القمح والشعير؟ قال: لا بأس بذلك. ولعل القاعدة في ذلك. النظر إلى ما يترتب على احتكار السلع من ضرر. سواء كانت طعاما أو غيره. وأما العروض فيراعى فيها احتكارها في وقت بضر بالناس ذلك، فيمنع منه، ويكون سبيله مثل ما ذكرنا في الطعام، ولا يمنع من احتكارها في وقت لا يضر.

الأكثر قراءة