البطالة .. الواقع والمأمول

أعرف مسبقا أن الحديث عن قضايا ومشكلات كثيرة ما زالت تمثل عبئا وأرقا عاما لم يعد مجديا، فالبعض يعتبره مجرد «كلام جرائد» (لا يودي ولا يجيب) في ظل غياب ردة فعل عملية وإيجابية من أي جهة مسؤولة معنية بهذه المشكلة أو تلك، وعدم الجدوى هذا لا يستدعي أن يفتر أو يمل كل صاحب رأي وقلم من أن يستمر في الطرح كلما جد جديد أملا في أن يفتح الباب يوما للتفاعل الإيجابي مع ما يطرح، ولكن بصيغة مغايرة تماما عن روتينية ردود إدارات العلاقات العامة، أو اتصالات المسؤولين, وجميعها تتركز على التبرير أكثر منه النقاش لتلمس الصواب والاستفادة من الرأي الآخر.
من هذه القضايا التي كثيرا ما تناقش، ويجب أن تظل تناقش دوما ويلقى عليها الضوء قضية البطالة في بلادنا، وأهمية هذه المشكلة أن لها ارتباطا وثيقا ومباشرا بشريحة واسعة ومؤثرة وهي فئة الشباب غير القادرين على الحصول على فرص عمل لائقة توفر لهم الاستقرار النفسي والاجتماعي والاقتصادي، وبدخول تتوافق مع مستوى معيشة اجتماعية بمواصفات مجتمع وفرة ونسبة دخل فردي يوصف بالمرتفع، وما ينتج عنها من سلبيات نراها ونلمسها.
ما وجد وحرك الرغبة، لدي على الأقل، في العودة ربما للمرة الرابعة لطرح موضوع البطالة، هو حديث نائب رئيس مجلس الشورى الدكتور بندر الحجار المهم والايجابي أثناء مناقشة خطط التنمية التاسعة وتوصية اللجنة الاقتصادية في المجلس بضرورة تطوير قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة بغرض زيادة مساهمتها في الناتج المحلي الإيجابي، وذكر الدكتور الحجار في هذا السياق أن هذا القطاع يمثل أكبر من 90 في المائة من إجمالي المنشآت في المملكة، وهو ما يعني أنه لو وظف توظيفا عمليا ومخططا له، لأمكن من خلاله توفير آلاف فرص العمل لشبابنا العاطل في مهن وأعمال ما زالت تقوم بها عمالة أجنبية، ولا تحتاج إلا لفترة تدريب قصير ومتقن ودعم جدي للشباب، وإحصائيات مصلحة الإحصاءات العامة، كما ذكر الدكتور الحجار، تشير لوجود ثمانية ملايين وافد يعملون في المملكة، منهم 5.5 في المائة يعملون في قطاع الصناعة بمختلف المنشآت، وتبرز أهمية هذا القطاع في الناتج المحلي أن التحويلات الأجنبية تجاوزت منذ عام 1990 م وحتى عام 2007 م تريليون ريال سعودي، وبمقابل ذلك سجلت البطالة لدينا نسبة 10 في المائة في عام 1429هـ.
من هذه الأرقام والإحصائيات نستطيع تحديد مسببات البطالة وكذا استشراف حلول لها، وحين نسعى لمعرفة أسبابها، فإننا نصدم بِأنها أسباب معكوسة، ففي كل دول العالم تنتج البطالة من قلة فرص العمل ووفرة الأيدي العاملة، بينما لدينا هناك وفرة في فرص العمل «واقعا»، وندرة في الأيدي العاملة «نظريا», وحين أقول نظريا فالمقصد أن هناك كما كبيرا من العاطلين عن العمل من السعوديين، ولا يجدون فرص توظيف لعدم تأهيلهم وتدريبهم بما يجعل منهم قوى عاملة يحتاج إليها ويعتمد عليها سوق العمل، والشاهد على ذلك كم الوافدين الموجود واستمرار الاستقدام بغرض شغل كثير من مهن المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وهذا يعني أن فرص العمل متوافرة وموجودة، ولكن المشكلة هي في عدم تهيئة أيد سعودية مدربة بما يجعلها تنافس الوافدة، وهنا يكمن السبب.
أتصور أن بدايات الحل لمشكلة مثل البطالة وفي ضوء ما سبق تكمن في أمر واحد فقط وهو برامج تدريب فاعلة وواقعية ومرتبطة باحتياجات سوق العمل الفعلية، وهذا يتطلب إعادة النظر في الخطط والبرامج، وهذا ما طالب به المدير العام لمنظمة العمل العربية السيد أحمد لقمان أثناء زيارته للمملكة بمناسبة عقد المنتدى العربي الأول للتدريب التقني والمهني واحتياجات سوق العمل الذي تنظمه المنظمة برعاية خادم الحرمين الشريفين، حين قال إن على مؤسسات التدريب المهني والتقني تغيير خططها وبرامجها واتجاهاتها، واصفا جزءا من خطط التنمية العربية بأنها ثبت عدم جدواها كونها في واد وسوق العمل في واد آخر، وبالتالي كانت مخرجات التعليم والتدريب لا تنسجم مع سوق العمل.
في حالتنا نحن لا حل لمشكلة البطالة إلا من خلال وضع استراتيجية وطنية تقوم على ربط التدريب بشقيه التعليمي أي الجامعي والمهني بسوق العمل مباشرة، وأن تكون أولويات هذه الاستراتيجية هي العمل المنظم على إحلال الأيدي العاملة الماهرة محل الأيدي العاملة الأجنبية، ولكن وفق معايير تدريبية متوافقة مع احتياجات سوق العمل ومتطلباته، وأن تبدأ هذه الاستراتيجية من العمل على المنشآت الصغيرة والمتوسطة بغرض تحويل أكبر قدر ممكن من فرصها الوظيفية للسعوديين المدربين والمؤهلين لإدارتها وتشغيلها، فهذا القطاع يمثل النسبة الأكبر في سوق العمل، كما أن له إسهاما واسعا في الناتج المحلي الذي يمكن تدويره داخل البلد بدلا من تحويله خارجها، والسؤال المطروح هو: أين برامجنا التدريبية من هذا القطاع الأكبر والأوسع الذي لا يزال يعتمد على الأيدي الأجنبية؟
إن قضية البطالة ومقابلها فشلنا في توفير الأيدي العاملة السعودية مهاريا وثقافيا، لهي قضية أمن وطني تتطلب منا الاهتمام بها، وفي ظل العوائق التي جعلتنا غير قادرين ــ رغم مرور كل هذه السنوات ــ على إطلاق برنامج السعودة وتطبيق توطين الوظائف والمهن، أصبح مطلب تغيير الخطط وإعادة النظر الجذري في كل برامج التدريب ملحا، وهذا يتطلب جهدا وطنيا عاما، ويستحق أن يكون موضوعا لحوار وطني واسع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي