وماذا بعد أن بان للشيخ ابن منيع رأي في الصكوك غير رأي الأمس؟

طالعتنا صحيفة «الرياض» الأسبوع الماضي بخبر عن الشيخ ابن منيع يتبرأ فيه من الصكوك. والحق يقال إن الشيخ ــ حفظه الله ــ قد تبرأ من الصكوك كلها وليس من 85 في المائة منها فقط, كما دل عليه عنوان الخبر. الشيخ ــ حفظه الله ــ سرد شروط الصكوك التي لا تنطبق على أي صكوك موجودة ومعروفة, فالشروط التي ذكرها الشيخ وذكرتها سابقا في مقالين وذكرها غيره من قديم هي في واقعها أشبه ما تكون بالأسهم الممتازة التي لا وجود لها عندنا. وأما نسبة الـ 85 في المائة فقد ذكرها الشيخ ــ حفظه الله ــ استشهادا في نقله عن الشيخ تقي عثماني. وجريدة «الرياض» في عنوانها للخبر ذكرت أن الشيخ ابن منيع شرح الواقع وقدم الحلول, وهذا مما تجوز فيه المحرر, فالشيخ ــ حفظه الله ــ لم يقدم حلولا بل ذكر الشروط الشرعية للصكوك التي تعني أنه لا صكوك بل نوع من أنواع الأسهم ممتازة. وأما الواقع فالحديث عنه حديث أليم ذو شجون يحكي واقع أمة تتقاذفها الآراء والتجارب على حساب الفرد المسلوب إرادته الفكرية. لا يختلف اثنان في إخلاص الشيخ وحرصه وغيرته على دينه ووطنه وقومه, وأما قوله إن الحيلة انطلت عليه وعلى الهيئة الشرعية فهو مما يعذر فيه, فالرأي لا يخلو من زلل. ونحن كأمة بعامة وكوطن خاصة يجب أن نتأمل في أخطائنا ليس من أجل أن نقول للمخطئ المجتهد أخطأت بل لنقول له جوزيت خيرا، جهد مشكور وعمل مبرور. ولكن لا بد من تصحيح الخطأ لنقيم وطننا بإقامة الدين الصحيح وإقامة الاقتصاد المبني على العلم والحقيقة لا على الأساطير والأوهام ولنحفظ قومنا من استغلال المستغلين ومن تهكم المتهكمين.
منذ أربعة أشهر تقريبا وفي جريدة «الوطن» انتصر الشيخ ابن منيع للصكوك وناشد رجالات الدولة بمنع السندات والاقتصار على الصكوك في سوق السندات. فماذا بان للشيخ الآن ما لم يبن له بالأمس؟ كيف انطلت حيلة الصكوك على الشيخ ابن منيع ومعه «مشايخ» الاقتصاديين وعلى رأسهم الدكتور القري؟ كيف غاب عن الشيخ ـ حفظه الله ـ مئات الصيحات التي نادت ببطلان الصكوك؟ كيف يغيب عن الدكتور القري, وهو المستشار الاقتصادي للشيخ ابن منيع في كثير من الهيئات, بأن ما يرتهنونه تحت اسم الملكية هو مجرد تلاعب بالأسماء طالما أن الملكية لا تزال في موجودات الشركة؟ كيف ينطلي عليهم أن تغيير اسم الرهن إلى ملكية هو مجرد فتح مجال للشركات الأمريكية والأوروبية من أجل تضييع حقوق أصحاب الصكوك, وهذا مما لا يخفى حتى على الطلبة المبتدئين الذين أدرسهم في جامعة الأمير سلطان. كيف انتشر تحت مصادقة الهيئات الشرعية عندنا ما يسمى «التورق الثنائي» و«التورق المقلوب» وغيرها من الأسماء التي لا معنى لها إلا تصعيب الأمور على المختصين وما هي إلا عينة ومقلوب العينة حتى إذا ظهر الأمر للناس وبان واستنكروه بفطرهم وبمنطقهم تبرأ منه الشيخ ابن منيع ورمى المسؤولية على عدم فهمه للمسألة أو على تحايل البنوك . يجب أن نقف وقفة صدق مع أنفسنا فلا مجاملة في الدين ولا الوطن ولا ممتلكات الناس. فوالله لقد درست الشريعة لوجه الله وتعمقت فيها لأكثر من 14 عاما ودرست الاقتصاد والأعمال لعقد من الزمن فوالله ثم والله للأمور الاقتصادية وتشابكها من اقتصاد مالي ونقدي وحقيقي وسلوكي والجانب الدولي لكل ذلك هي مما يصعب فهمها والإحاطة بها على كثير من الاقتصاديين وهي في حق الشرعيين أصعب وأشد. بل أكاد أجزم باستحالة فهمها من قبل الشرعيين ولا يطعن في هذا إلا من يطعن في نيات من يحرم اليوم ما حلل بالأمس بعد أن ظهر للناس فساده وبطلانه. ولو كان الرجوع قبل أن يظهر الأمر للناس ويبين لم يكن لشاهدي محل، فكأنه قولهم « يذكرني حم والرمح شاجر فهلا تلا حم قبل التلاقيا». فمن الطبيعي أن الفهم قد يستعصي على المرء حتى يفهمه الصغير والكبير ثم تتبين له المسألة من خلال فهم الناس لها.
في مقال « حكم تداول الصكوك والسندات» في جريدة «الوطن» اعترض فيه الشيخ ابن منيع ــ حفظه الله ــ باسمه واسم «أهل التقوى» و«طلبة العلم» وباسم «الجميع» على سوق السندات وانتصر فيه للصكوك وهاجم السندات والمتعاملين بها، وأي هجوم أعظم من قوله بأنها ربا. ثم ناشد وزير المالية ومحافظ مؤسسة النقد ورئيس هيئة سوق المال بالاقتصار في السوق على الصكوك دون السندات وطارت صفحات الإنترنت بمقال الشيخ تحت عناوين متنوعة. وختم الشيخ ــ حفظه الله ــ مقاله باستشهاده بقول رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة», فالشيخ ابن منيع هو من سن الصكوك والتورق الثنائي وغيرها كثير مما تفعله ما يسمى الصيرفة الإسلامية. والشيخ ابن منيع كذلك هو من نظر وقعّد ودافع لقياس الفلوس المعاصرة على النقدين بكتابه الورق النقدي (الذي أصبح مستند كثير من الدراسات لعدم وجود مستند شرعي للقول بربوية الفلوس المعاصرة على أنه لا يخلو من نظر عظيم وحتميات مذهبية محضة لا صحة لا في الشرع ولا في واقع الفتوى الآن). وأصبح الناس الآن يكتنزون أونصات الذهب والفضة ويبيعونها تفاضلا ونسيئة ولا يزكونها اعتمادا على ذلك التنظير. وأصبح الناس الآن - تحت اسم الصيرفة الإسلامية ــ يتداولون جميع الأعمال البنكية التي يحرمها الشيخ ابن منيع ويشنع عليها ويدين الله بأنها ربا. فهل ما انتهينا إليه سنة حسنة أم سيئة وعلى من يقع وزرها؟
كم بان للشيخ ابن منيع من أمور قد انطلت عليه وعاد إلى الحق ولكن بعد أن ضاعت على المسلمين الفرص وافتقروا. وكم من صك وقرض أشاد به الشيخ ثم عاد فقال إنه ربا! أفلا يجدر بنا أن نخاطب الشيخ ــ حفظه الله ــ فنطالبه بالرجوع إلى أصل المسألة، مسألة ربوية الفلوس المعاصرة, فقد تخبطنا في أحد أهم أمر من أمور الدين والدنيا بما فيه الكفاية. إن الشيخ ــ حفظه الله ــ لم تبن له هذه الأمور إلا من بعد أن بانت للناس صغيرهم وكبيرهم فانتبه وفهم المسألة فرجع إلى الحق، فواجبنا ـــ نحن الذين يدركون مثل هذه الأمور ــ أن نبين للناس أصل مسألة ربوية الفلوس المعاصرة فإذا بانت للناس وفهموها سهلت بعد ذلك وبانت للممانعين من الشرعيين الذين يصعب عليهم فهم وتصور الاقتصاد المالي والحقيقي الحديث, فكان قولهم الشائع الآن من باب الاحتياط المحض. وما نعيشه الآن من فتن الصيرفة الإسلامية وانعدام الزكاة من أموال الناس لهو أكبر شاهد على ذلك.
الشيخ عبد الله بن منيع ــ حفظه الله ــ من أشد الناس هجوما على الصيرفة التقليدية مستندا إلى فتوى قديمة ــ لها 40 عاما ــ كان هو منظرها ومؤصلها، وها قد زالت حيثياتها ومعطياتها وبانت خطورتها وعواقبها. وقذف الناس بالربا لهو من أعظم القذف. والشيخ ـ حفظه الله ــ يعلم أن في الأمر سعة وإن لم يكن على رأيه, ويعلم أن الصيرفة التي يقودها ويناضل عنها هي أشد من الربا عند معظم كبار العلماء عندنا, فلم لا يسعه ما وسعهم من سكوتهم وعدم تشويشهم عما يقرره من أعمال هي عندهم أشد من الربا. وما يدري الشيخ ابن منيع ــ حفظه الله ــ فلعل عالما ربانيا يظهر بفتوى عدم ربوية الفلوس المعاصرة فيفهم الناس المسألة فينصرفون له, فيتبين للشيخ ابن منيع ــ حفظه الله ــ حينذاك ما لم يستطع أن يتبينه الآن، فيرجع كما رجع في كثير من معاملات الصيرفية الإسلامية.
يا حكماء قومي, الاقتصاد الحديث وتوابعه أبعد وأعمق وأصعب بكثير من أن يفهمه ويدركه الشرعيون, وها نحن نعيش تخبطهم في مثل هذه الأمور. والاقتصاديون لا يستطيعون شرح أغوار الاقتصاد وتوابعه للشرعيين لأنهم لا يدرون ماذا يبحث عنه الشرعيون، والسبب هو التكتيم والسرية عند الشرعيين ــ هذا إذا كانوا أهل علم ومدركين ــ لكي لا يعلم العامة ما يفتنهم على حد رأيهم. وإن كان يغلب على كثير من الشرعيين الآن الجهل في هذا الباب من الناحية الشرعية.
يا حكماء قومي, لا يصبحن الوطن مسرحا لتجارب أشخاص هنا وهناك. يكفي نصف قرن من الزمن سندفع كثيرا لتعويض ما مضى. كم من فضلاء من أهل البنوك صبروا وتحملوا القذف والشتم لنصف قرن من عامة الناس فأصبحوا اليوم والأمة تخطب ودهم وتشهد لهم وبأفضالهم. ماذا لو لم يكن هناك أمثال الشربتلي رئيس مجلس بنك الرياض قديما وأمثاله الذين حملوا رسالة البنوك وساندوا الوطن. اليوم يُجرم الناس ويفسقون ثم يعتذر بالجهل فيكرمون غدا. كم من أبناء الوطن فقدوا أموالهم لفتاوى هنا وهناك؟ كم أموال زكوية ضاعت على فقراء الوطن؟ كم من بيوت هدمت بسبب عمل أحد أفرادها في البنوك سابقا؟ كم من صكوك وقروض تأسلمت حينا من الزمن فلما بيعت قيل إنها ربا؟ كم تأخر الاقتصاد وتعطل بسبب الاحتياط؟ يا حكماء قومي إن التخبط الذي نعيشه في هذا الباب يجب ألا يتجاوز الآراء والحريات الشخصية, فأناشدكم الله لا يصبحن قانونا يُجبر الناس عليه. يا حكماء قومي, إن قذف الناس بالربا وتخويفهم من أجل الدعاية والتسويق لما هو أشد من الربا ــ الصيرفة الإسلامية ــ يجب أن يمنع بالقانون. فهذه الدعاية تهدم بنية التلاحم الوطني وتقسم الناس والشركات إلى فئات يُلبس بعضها بلباس الدين بينما يُفسق بعضها الآخر. يا حكماء قومي ليس الدين ولا السياسة ولا الأيديولوجيات تقود الدول في عصرنا الحاضر بل الاقتصاد وهو الضمان للدولة وللأوطان. يا حكماء قومي, إن الجيل القادم جيل متعلم منطقي له عقل نير مستقل يفكر به. وانتشار صيرفة الحيل مع انتشار ثقافة الائتمان وانتشار التمويلات ليس في مصلحة الدين, فقد يرفض هذا الجيل الدين جملة وتفصيلا. الجيل القادم سيستهجن هذه الحيل وسيرفضها فلا تضعوا قوانين ستهمل مستقبلا أو سترفض, وكلاهما مر ليس من مصلحة الوطن في شيء. فإهمال القوانين ضعف في الدولة، والقوانين ليست كالاجتهادات الشخصية يظهر المجتهد يعتذر بجهله في واقع الأمر فيحمد له ذلك وعفا الله عما سلف ليعود فيجرى التجارب من جديد على وطني مفسقا هذا ومؤسلما ذاك, فيا ويح هذا الوطن.
وأختم بتحية إجلال وإعجاب للشيخ المجاهد عبد الله بن سليمان بن منيع الذي لم يعتزل الساحة في برج عاجي بل خاض هذا المعترك في كر وفر يبغي وجه الله ولا نزكيه على الله, وأما النتائج فهي بيد الله وحده. ولو لم تؤد اجتهاداته إلا للرجوع إلى أصل المسألة وظهور بطلان ما يسمى الصيرفة الإسلامية لكفى، وما على المؤمن إلا العمل «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون».

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي